غايات الثقافة


يصعب على الرجل المثقف ان يتمالك نفسه وهو يشرح الاسباب التي يجب ان تحمل  الناس على ان يكونوا مثقفين.  لانه  في هذا الشرح بمثابة من يزجرهم عن القذارة والتوحش والبهيمية،  ويوضح لهم قيمة النظافة او الانسانية والتمدن.
فنحن هنا في حاجة ان نقول للشباب المتخم بالفراغ انه يجب عليه ان يثقف نفسه حتى لا يفسد. ويجب ان نقول لغيره ان الحياة الناضجة تحتاج الى الثقافة.

هناك من الناس من يصح ان نسميهم بقولا بشرية.اذ ليس لهم من سمات الحياة سوى النمو الخلوي، كأنهم شلغم او فجل، وسيبقون في عداد البقول الى ان يثقفوا انفسهم.
ان الحياة الخاوية تحدث سأما لا نتخلص منه الا بالثقافة التي تبعث على الاهتمامات الذهنية وتبسط الافاق.


في الواقع ان المدرسة والجامعة لا تكفيان لتربيتنا، لان المعارف اكبر من ان تحتوياها. ثم هذه المعارف تتغير وترتقي، فهي لاتفتأ في تنقية وتهذيب،  فيجب لهذا السبب ان نكون طلبة مدى حياتنا، نتحسس النمو الثقافي ونتدرج في التطور الذهني.
يجب ان نعرف ان حياة الفرد محدودة، قلما تزيد عن السبعين سنة،  ولكن حياة النوع البشري طويلة.  ونحن حين ندرس، انما ننقل حياة النوع الى حياة الفرد. واختبارات الالاف من السنين الماضية الى اختبارات العمر الشخصي القصير.  اي اننا عندما ندرس التاريخ البشري والثقافة القائمة في عصرنا، وهي الثقافات المتعاقبة في العصور الماضية، نفهم المغزى من الحياة اكثر مما نفهمه من حياتنا الخاصة. واحدى غايات الثقافة هي ان نكسب الحياة، دلالة ومعنى.  اي نحس اننا لا نحيا الحياة البيولوجية التي لا تختلف عن حياة الحيوان.
ان ما لدينا من المعارف السائدة تكفي للكسب المادي، اما الكسب الروحي فيتطلب منا ان نطرق ابواب الثقافات المتوافرة لدينا كي ندرك منها اننا حلقة في  سلسلة طويلة من البشرية التي تتمثل فينا اغراضها واهدافها ومثلياتها، وبها نرتقي الى مستوى عال له نكهتها الخاصة، تجعلنا نشعر بالسعادة الحقة.

ان نظم التعليم بل كذلك نظام الحرفة يحيلنا الى متخصصين. نعرف فنا ونمارس حرفة. وفي حدود هذا الفن وهذه الحرفة نعيش المعيشة المحدودة. فالثقافة هنا تحيل هذا التضييق الى توسيع افق التفكير، تكبر العقل وترحب القلب، فنجد عندئذ التسامح البشري بدلا من التعصب القومي والنظر العالمي بدلا من النظر القروي.

ان المعارف في الحضارة القائمة مشتبكة بحيث اذا شاء الطبيب في العراق مثلا ان يدرس مشكلة الامراض المتوطنة لوجب عليه ان يدرس السياسة الزراعية والخطط الاقتصادية التي اتبعتا في الماضي والى وقتنا الحاضر. وقارئ الجريدة اليومية يتعرف على التيارات السياسية والاجتماعية و تاريخ الحركة الصناعية وعلاقتها بالاشتراكية. ومعرفة سبب تصادم الامبراطوريات، منذ قديم الزمان الى الان.

نحن نثقف انفسنا كي نكبر شخصيتنا وننمي اذهاننا كي نتطور فلا نموت في سن السبعين ونحن على حال ثقافية قد اكتسبناها من الجامعة او المدرسة في سن العشرين بل نظل طول عمرنا ونحن في دراسة دائبة تغيرنا التغيير الذهني والنفسي. لانه بدون هذا التغيير لا يتطور المجتمع او الفرد بل ان السعادة الشخصية تحتاج الى الاحساس بالنمو والتغيير والتطور واساس كل ذلك هو الفهم الذي يعد اعظم انواع السعادة.

وعالم اليوم يعج بألاف الاصناف من العلوم والفنون وهي تراث بشري من حق كل فرد ان يعلم به، وهو اذا كان قادرا بالمال والوقت فان هذا الحق يعد واجبا.
 فان ديانة كونفوشيوس الصيني ومكتشفات الادوية الطبية وصلوات الفرعون اخناتون والقوانين الكهربائية وحياة افلاطون واكتشاف الذرة، كل هذا من حق اي انسان ان يعرفه، لان في كل واحدة منها فائدة معنوية ومادية لا يستهان بها.

ثم اعتبار اخر هو العلاقة الحيوية بين الذهن والثقافة، فحينما ندرس مختارين متطوعين ليس علينا اجبار، فانظر مثلا الى شاب في السابعة عشرة من عمره يقرأ موضوع التناسليات، فانه يطلب هذه المعارف كما تطلب المعدة الطعام لان حاجته هنا تنبع من نخاع عظامه واعماق نفسه.  او انظر الى رجل قد فات الخمسين يدرس الدين. فان كنوزه من الاختبارات الماضية تجعله يطلب هذه المعارف بقوة وذكاء وحرص وتدقيق لم يعهد مثلها من قبل. او انظر الى قيمة الجريدة اليومية ايام الحرب حين يستحيل كل منا الى بسمارك، ليس له حديث غير السياسة، حين يصير مستقبل العالم كأنه مستقبلنا الخاص. فهذه الظروف جميعا تجعلنا نقبل على القراءة، ومن هنا قيمة التثقيف الذاتي.
* من اعمال سلامة موسى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.