قبل ان يكون لنا المام بسيكولوجية الاحلام علينا ان نعرف شيئا عن سيكولوجية النفس , ونفس الانسان تتكون من عقلين هما : العقل القديم وهو موطن الشهوات والنزوات التي ترمي الى اللذة والسرور . وهو غير واعي , ورثناه من اسلافنا , يجري في اساليبه على طرق الثقافة القديمة حين دخل الانسان دور التطور . والثاني هو العقل الحديث الواجد الذي نعرف به الأمس والغد ونفكّر به , اي عقل اليقظة . وقد اصطلحنا على الأول بالعقل الباطن او الذي يعمل على غير وجدان و المسؤل عن احلام اليقظة في صحونا والأحلام في نومنا .
فالنوم يتصل بالعقل الواجد برباط ضعيف لأنه عقل حديث . ولحداثته لم يتأصل في اجسادنا كالعقل الباطن . فهو كالشجرة حديثة العهد بالغرس , اذا هبت الريح زعزعتها , في حين ان الأشجار القديمة لا تتزعزع بالعواصف . فالأعياء يعتريه بسرعة . ولذلك فهو اول ما ينام .
وليس معنى هذا ان العقل الباطن لا ينام البته , فأننا نعرف أننا اذا كنا في حاجة شديدة الى النوم , و اخذ منا الأعياء فأننا ننام نوما عميقا , اي لا نحلم . أي أن كلا عقلينا قد نام لشدة الأعياء . وهذا شبيه بالجنون حين يشتد فياكل المجنون التراب لأن عقله الغريزي الذي كان يميز الطعام قد جنّ ايضا . وشبيه ذلك يحدث لنا عندما نحتسي الخمرة , حيث نشعر خلالها بدرجات متفاوتة من الجنون تصيب عقلنا طبقات معينة منه الواحدة بعد الاخرى حتى تنتهي الى اختلال العقل الغريزي بالكامل . لكنه لا يحدث الا نادرا .
ان اغلب حياتنا نقضيها في نوم اعتيادي , اي الذي ينام فينا هو العقل الواجد فقط , بل احيانا يكون الأعياء منبها للعقل الباطن فنرى الاحلام تتوارد كثيرا . وقد يبقى العقل الباطن مكبوتا مدة اليقظة , لأن العقل الواجد يكظمه ويمنعه من الظهور . فاذا نشات فينا وقت اليقظة عاطفة شوق او جوع او غضب كظمها العقل الواعي لان ثقافتنا لا تؤاتينا على ان نترجم هذه العاطفة الى رغبة ثم الى ارادة ثم الى عمل . لكن هذه العاطفة تندس في العقل الباطن وتبقى رغبة مضغوطة , اذا نمنا ظهرت بمظهر الاحلام والخواطر .
وما دام العقل الكامن هو الذي يظهرها على اسلوبه القديم , فنحن في النوم ننتقل من ثقافة الانسان المتحضّر في القرن الحاضر الى حالته البهيمية الى قبل اكثر من مليون سنة , يغضب كثيرا ويرعب كثيرا ويعنف كثيرا . ولما كان الطفل يمثّل الحيوان , يحبو على اربع , فأن الاحلام تجري على اسلوب الطفولة , اي الاسلوب الذي كان يسلكه الانسان في المراحل الاولى من تطوره .
فالعاطفة المكظومة اي اللبيد المحتبس , اذا اندست في العقل الباطن , حاول هذا ان يفرج عنها بالخواطر , فالجائع الذي كظم عاطفة الجوع تخطر في باله الوان من الطعام الشهي وهو في غفوة اليقظة و او يرى انه يأكل الطعام في الحلم . فالحلم هو تحقيق رغبة قامت في النفس ولم تتحقق في اليقظة , لكن ليست كل الاحلام هكذا .
ان معظم الاحلام في الواقع هي صراع رغبة يحاول الشخص فيها ان يحقق هذه الرغبة , فأن نجح فيها , فبها والاّ فقد يستيقظ وهو ما يزال في صراع . وكل ذلك يجري بأسلوب النفس القديمة , فالجائع الذي حرم من الطعام يرى الخبز ويأكله في الحلم فيتحقق بذلك رغبته , او يرى الخبز في الحلم ويحاول ان ياكله فلا يقدر , وهنا صراع بين الشهوة للطعام والأمتناع منه . وذلك لان العقل الكامن كما اندسّت فيه الشهوة للطعام كذلك اندسّت فيه الرغبة في الامتناع . وهذا لمصلحة الشخص نفسه .
واحيانا يكون خروجنا من الحلم محيّرا . علة ذلك ان الحلم لا يعرف وجه الحل فيه , فالمعضلة التي حاول العقل الباطن حلها , شكلت صعوبة في التحقيق ووقف حائرا .
وهنا يجب ملاحظة انه اذا كان النوم خفيفا فاننا نشعر بالصراع في الحلم والحيرة في تحقيق الرغبة . واذا كان النوم عميقا شعرنا بتحقيق الرغبة . وعلة ذلك اننا في حالة النوم الخفيف يتصل العقل الواجد بالعقل الكامن فلا يشطح العقل الكامن في اسلوبه القديم . ويحقق الرغبة في قتل الخصم . فأن العقل الواجد لخفة النوم ينتبه الى سخافة ذلك فتحدث الحيرة والصراع بين تحقيق الرغبة وعدم تحقيقها .
اما اذا كان النوم عميقا فان العقل الواجد يكون نائما وعندئذ يحقق العقل الكامن رغبته كما يشاء على طريقته القديمة . وهذا الصراع تتجلى صورته الواضحة في الكابوس . فانه من الواضح ان الكابوس لا يحقق شهوة من شهواتنا , وهو على نقيض مثل الخبز الذي يراه الجائع ويأكله في النوم .
اذا ما هو الكابوس ؟ قد يحدث ان تقع لي حادثة مفزعة جدا ولكني انجو منها . فبعقلي الواعي اعرف اني قد نجوت , واكظم عاطفة الرعب التي لحقتني والتي لا اذكرها , لكنها اندسّت في العقل الباطن . لأنني لم احاول ان اترجمها في حينها الى عمل .
هذا الرعب الذي ينتابني في اليقظة من وقت لأخر , يخفق له قلبي ويذهل عقلي , يدركني في النوم عن طريق العقل الباطن بشكل كابوسا . أي رعبا قديما . يظهر بأشكال مختلفة . كأن اتخيّل السقف ينهار علي , او سيارة تسحقني , او وحش يفترسني . أحاول ان اهرب فلا اقدر . ... ولكن لماذا لا اقدر ؟ . لأن الأنسان القديم الذي يجري عقله الكامن على نمطه , كان يستجيب للخوف في الغابة بالسكون التام . كما يفعل الثعلب . لأن هذا السكون كان وسيلته للنجاة . فإذا أغار وحش على حشد من الناس , وانزوى احدهم مرعوبا ساكتا جامدا , بحيث لا يقدر على الصراخ او الحركة , لأستطاع بذلك ان ينجو من الوحش الذي قد لا يلتفت اليه .
فهذا الجمود الذي نجده في الكابوس هو طريقة العقل الباطن في الاستجابة للخطر على طريقة الاسلاف القدماء , ولكن عندما نقترب من اليقظة يحدث صراع بين العقل الواجد الذي يوشك ان يستيقظ والعقل الكامن . ولذلك قد نصرخ , ثم نستيقظ تماما .
فالصراخ ياتي في الأخر عندما نقترب من اليقظة وهذا ينساق مع كلامنا من ان الحلم يكون في النوم الخفيف صراعا وفي النوم العميق تحقيق رغبة .
بقى ان نقول ان الكابوس يدل على ان الخوف كان عند ابائنا اشد مما هو عندنا و فهو يخف تدريجيا و ولعله صائر الى المحو التام من طبائعنا في الاجيال القادمة وذلك حين يسيطر العقل الواجد سيطرة تامة على الجسم .
منذ ان عرف الانسان كيف يفسّر الاحلام , عرف ان للأحلام رموزا . ومنذ ان شرع يؤلف اللغات , اعتمد على الرموز في تأليف الالفاظ . وعرف ان المجاز والأستعارة هما من الرموز , لا بل قوام اللغات كلها . ولذلك فأننا يمكننا ان نفسّر الرموز التي نجدها في الأحلام برموز اللغات . اي بمجازاتها واستعاراتها . وقد استطاع العالم الشهير فرويد ان يطابق بين رموز الاحلام وبين لغة الفراعنة القدماء , من منطلق ان العقل الباطن ينظر الى الدنيا عن طريق الحلم نظرة القدماء , ويسير على نهجهم و ثقافتهم , واحيانا يرد الى ما قبل ذلك , الى ثقافة الغابة . ويجري كل ذلك على اسلوب سلوك الطفل .
الى الحلقة القادمة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق