المنظور الحضاري في أنماط التدوين التاريخي حتى عصر ابن خلدون

أولا : التواريخ العامة أو تواريخ العالم.‏
ثانيا : الطبقات والتراجم.‏
ثالثا : التواريخ المحلية والإقليمية والمنظور الحضاري.‏
ابن خلدون وفلسفة التاريخ.‏
‏ إن استقرار أنماط التدوين التاريخي عند العرب المسلمين، يفرض على الباحث تناولها بمنهجية تقوم دراستها على طريقتين : عمودية، وأفقية، مع التأكيد على تباين واختلاف المنظور الحضاري للمؤرخين في كلتا الطريقتين من ناحية، واختلاف المنظور الحضاري داخل الأطراف المعنية من المؤرخين ضمن الطريقة الواحدة من ناحية أخرى.‏

‏ ويقصد بالطريقة العمودية هي أن المؤرخ يبتدئ التاريخ منذ الخليقة، أو الطوفان، أو منذ الميلاد، أو ظهور الإسلام، حتى ينتهي بعصره، وهي طريقة كما نرى لها بداية وتنتهي بنهاية، قد تكون عصر المؤرخ، أو يتوقف عند فترة قد تكون سابقة لعصره، على أن المهم فيها أنها طريقة تصاعدية في تناول حوادث التاريخ.‏

‏ أما الطريقة الأفقية فهي التي تقوم دراستها بشكل يتوزع على المكان أكثر من توزعه على الزمان .. بعبارة أخرى، هي تدرس شرائح منتخبة من الناس موزعة على المجتمع العربي الإسلامي في امتداداته العرضية في ديار الإسلام.‏

يتمثل النمط العمودي في:‏

أولا : التواريخ العامة أو تواريخ العالم

‏ يتميز هذا النمط من التدوين التاريخي، بأنه يركز على الفرد في التفسير الحضاري للتاريخ، بمعنى أن التاريخ أو الحضارة لأمة من الأمم هي من صنع (بطل)، سواء كان نبيا هذا البطل أو ملكا، أو قائدا عسكريا مظفرا، وهكذا فإن منظور المؤرخ في هذا النمط من التدوين قد تقمس أحد هذه الأشكال البطولية في تفسيره لحوادث التاريخ، أو للحضارات التي عني بدراستها (1).‏

‏ ومن أوائل من مثل هذا النمط في التدوين التاريخي هم:‏

‏1- الدينوري، أبو حنيفة أحمد بن داود (ت : 282 هـ أو 290هـ).‏

ألف الدينوري كتاب الأخبار الطوال، وهو من بين عدة كتب ذكرها له ابن النديم (2).‏

‏ والكتاب هو في التاريخ العام، قسم الكتاب إلى ثلاثة مباحث : الأول ويتناول الخليقة منذ آدم مرورا بكافة الأنبياء، والثاني يتناول فيه تاريخ الساسانيين والروم أما القسم الثالث فقد خصصه لحروب الفرس والعرب، والفتوحات، مع شحة في ذكر تاريخ الخلفاء الراشدين، ودون أن يتطرق إلى الأمويين.‏

‏ منظور الدينوري منظور ديني، فهو لا يبتعد عن فكرة البطل في التاريخ، ولكن البطل عنده نبي وليس ملكا أو قائدا، وهذا ما يعطي لنظرته تلك القيمة الحضارية (3).‏

‏2- اليعقوبي، أحمد بن إسحاق بن جعفر بن وهب بن واضح ( ت : 284 هـ أو 292 هـ) ، ينتمي لطبقة الكتاب قامت شهرة اليعقوبي على أثرين من آثاره هما : (كتاب البلدان)، و(التاريخ) أو تاريخ اليعقوبي.‏

‏ وتاريخه يعد نموذجا للتاريخ العالمي .. ابتدأ فيه منذ بداية الخليقة، ثم أرخ للأنبياء حسب تسلسلهم حتى الإسلام، بعد ذلك يؤرخ لعصر الرسالة والخلفاء الراشدين والأمويين .. والأنبياء كما يستشف من العناية بأخبارهم، هم صناع التاريخ والحضارات الحقيقيين، الذين ينبغي الاقتداء بهم في مواجهة تحديات الحياة، كما أن عنايته بالجوانب الحضارية كانت واضحة في كتابه، حيث وصف الأناجيل الأربعة، ثم بحث في كتب أرسطو وأبقراط، وفي الفترة الإسلامية ابتدأ ببعض الحكم في أهمية العلم والمعرفة (4).‏

‏3- الطبري، محمد بن جرير ( ت : 310 هـ) : يحتل الطبري مكانة بارزة بين المؤرخين العرب المسلمين، إذ بلغت -بتاريخه- الكتابة التاريخية النضج والاكتمال .. اشتهر الطبري بكتابه (تاريخ الرسل والملوك)، الذي قسمه إلى قسمين : القسم الأول تضمن مرحلة ما قبل الإسلام، وابتدأه بالزمن والذات الإلهية، ثم الخليقة، ثم يؤرخ للأنبياء حتى ظهور الإسلام أما القسم الثاني فخصصه للفترة الإسلامية، بدأه بالحديث عن نسب الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم الوحي والدعوة والهجرة والدولة الإسلامية التي بناها الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم يتناول بعد وفاته عليه السلام اجتماع السقيفة، والفترة الراشدة، والأموية، والعباسية، حتى سنة (302 هـ) (5).‏

‏ اعتمد منهجه على الرواية، باعتباره محدثا، واستخدم الإسناد، وهي طريقة المحدثين، كما أنه اعتمد الترتيب الموضوعي لفترة ما قبل الإسلام، بينما اعتمد الترتيب الحولي في الفترة الإسلامية.‏

‏ أصبح تاريخ الطبري رمزا لختام عصر من عصور التاريخ، فقد كفى الطبري من جاء بعده مهمة العناية بجمع وتحقيق المواد المتصلة بالتاريخ الإسلامي، وصار المؤرخون اللاحقون يلخصون عن الطبري.‏

‏5- المسعودي (ت : 346 هـ) : عرف أبو الحسن علي بن الحسين ابن علي بن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، بكثرة رحلاته وتنقلاته بين أطراف الدولة العربية الإسلامية، بل وتعداها إلى سيلان (6) ، مما أعطى لمعلوماته قيمة كبيرة باعتبارها حصيلة المشاهدة والمعاينة التي توفرت للمسعودي .. ترك المسعودي عدة كتب، أشهرها (مروج الذهب ومعادن الجوهر) .. ويمكن تلمس دور البطل في الحركة التاريخية لدى المسعودي، فقد يكون البطل نبيا، وبالتالي فإن سعيه لإقامة مجتمع يسود فيه العدل والرخاء، أو ملك متجبر طاغية .. فمنظور المسعودي ديني، يؤكد ويقوم على الجوانب الحضارية، فهو يحاول تعليل سبب سكنى العرب وبعض الأقوام الأخرى للبوادي، ويعطي أسبابا لهذه الظاهرة، أحدها هو الأنفة وطلب العزة (7) ، ثم يتكلم المسعودي عن حضارة أهل الهند، ويورد معلومات مهمة عن أديانهم وفلسفاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وكذلك في حديثه عن حضارة أهل الصين والترك (8) ، الأمر الذي يوضح اهتمام المؤرخين المسلمين المبكر بالجوانب الحضارية للشعوب، أكثر من مجرد العناية بملوكها.‏

‏ ومن المؤرخين الذين ألفوا في التاريخ العام: ‏

‏- حمزة الأصفهاني ( ت : 350 هـ) ، الذي ألف كتاب (تاريخ سني ملوك الأرض، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام)، وقد قرن حمزة بين الملكية والنبوة في أن الحضارة لابد أن تكون صنيعة إحداهما (9) ، وقد أظهر حمزة اهتماما بالجوانب الثقافية ،كحرق الأسكندر لكتب الفرس، ونقله ما احتاج إليه من علوم الفرس إلى اللغة اليونانية، وبداية ظهور عبادة الأصنام والأوثان، مما يضفي على الكتاب مسحته الحضارية (10).‏

‏- المقدسي، المطهر بن طاهر ( ت :390 هـ) ، صاحب كتاب (البدء والتاريخ)، حيث قسمه إلى فترتين، الفترة السابقة للإسلام والفترة الإسلامية.‏

‏ والمنظور الحضاري للمقدسي ينحصر أيضا في رؤيته لوحدة الرسالات السماوية، لهذا فهو يسرد تاريخا للنبوة يبتدئ بذكر آدم مرورا بنوح وإبراهيم عليهم الصلاة السلام، وينتهي بخاتم هؤلاء محمد صلى الله عليه وسلم .. كذلك فإن المقدسي في رؤيته للحضارة، يجدها من صنع الملوك والأنبياء، غير أن كلا منهم ينظر إليها بمنظار خاص، فبينما هي بمنظور الأنبياء تشاد بالتوحيد والتناهي عن الظلم والتسلط والجبروت، نجدها في رؤى الملوك في الأعم الأغلب تقوم على العبودية والتعسف واغتصاب حقوق الآخرين (11).‏

‏ كذلك فهناك مؤرخون آخرون كتبوا في التاريخ العام مثل:‏

‏ - مسكويه (ت :421 هـ) : وهو صاحب كتاب (تجارب الأمم وتعاقب الهمم) .. كان مسكويه قد اشتغل بالكيمياء، ودرس الفلسفة، الأمر الذي ظهر واضحا على دراساته للتاريخ، فقد أصبحت دراسة التاريخ في نظره تحوي فائدة مهمة، وهي فائدة العبرة والاتعاظ، وهذا ما سوغ تسمية مؤلفه ب (تجارب الأمم وتعاقب الهمم)، بمعنى أن التاريخ صار يمثل تجربة أممية عالمية (12).‏

‏ لم يؤرخ مسكويه للأنبياء مطلقا، رغم أن كتابه من الناحية المنهجية مقسوم إلى قسمين، فترة ما قبل الإسلام والفترة الإسلامية (13) ، بل إنه حذف التاريخ الديني للرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، واقتصر على تدوين التاريخ السياسي، وهذا أمر له مغزاه، فقد سبق وأن أشرنا إلى أن الأنبياء والملوك يتبادلان الدور في صنع الحضارات، ويبدو أن مسكويه أراد أن يجعل الملوك وحدهم أصحاب الدور القيادي في البناء الحضاري، وذلك كي يجعل التاريخ معينا للتجارب الإنسانية السياسية، التي يمكن أن يستفاد منها عبرا أخلاقية، لذا فإنه يقول : "وإني تصفحت أخبار الأمم وسير الملوك، وقرأت أخبار البلدان وكتب التواريخ، وجدت فيها ما يستفاد منه تجربة في أمور لاتزال يتكرر مثلها، وينتظر حدوث شبهها وشكلها، كذكر مبادئ الدول ونشئ الممالك، وذكر دخول الخلل فيها بعد ذلك، وتلافي من تلافاه وتداركه .. "(14).‏

‏ وإذا كانت التجارب هي فعل بشري، يقع في حدود الطاقات والإمكانات البشرية على أرض الواقع، فإن أعمال الأنبياء لا يمكن أن تكون تجارب قابلة للخطأ والصواب، لأنها معجزات إلهية، ومسكويه الفيلسوف يخضع الفعل الإنساني للعقل .. أما المعجزات فهي خارج إطاره، ولهذا يقول : "ولهذا السبب بعينه لم نتعرض لذكر الأنبياء صلوات الله عليهم، وما تم لهم من السياسات بها، لأن أهل زماننا لا يستفيدون منها تجربة فيما يستقبلونه من أمورهم، اللهم إلا ما كان منها تدبيرا بشريا لا يقترن بالإعجاز " (15).‏

‏ ومن هنا، فإن التاريخ بنظر مسكويه، مسرح للنشاط الإنساني، ومستودع لتجارب العقل البشري على مر الأزمان.‏

‏ ومن المؤرخين المسلمين في حقل التاريخ العام: ‏

‏- أبو منصور الثعالب: (ت : 429 هـ) : صاحب كتاب (تاريخ غرر السير، المعروف بكتاب غرر أخبار ملوك الفرس)، وهنا نجد المنظور الحضاري التاريخي للثعالبي يتمحور حول الملك صانع الحضارة، حيث يقول : "فإن الناس بالزمان، والزمان بالسلطان، والسلطان بعد الله للملوك الذين استرعاهم أمور عباده، وملكهم أزمة بلاده، فلا دين إلا بهم ولا دنيا إلا معهم" (16) . على أن الثعالبي لا يستبعد الأنبياء من تصدرهم في بعض الأحيان لقيادة المسيرة الحضارية لمجتمعاتهم، وهو هنا يشير إلى أن هناك ملوكا أنبياء كآدم ويوسف، وداود وسليمان وذي القرنين ومحمد صلوات الله عليهم (17).‏

‏ ويبدي الثعالبي شيئا من الأصالة في القسم المتعلق بملوك الفرس، أما في القسم الإسلامي من تاريخه فهو عالة على الطبري (18).‏

‏ على أن هذا الكتاب يعتبر إيذانا بتوقف تجربة التاريخ العالمي منذ بداية القرن الخامس الهجري ولمدة قرنين (19) ، إذ كان لضعف الخلافة العباسية، وتسلط القوى الأجنبية عليها، وانفصال بعض الولايات عنها، والاقتصار على الارتباط بها ارتباطا واهيا، أدى إلى ظهور وازدهار ما يعرف بالتواريخ المحلية، وبدأ الأمراء المستقلون يشجعون الفقهاء والعلماء وأهل الأخبار في مجالسهم، وأصبحت حواضرهم تكاد تكون صورة ربما مصغرة عن بغداد (20).‏

‏ ومع ذلك فإننا نجد عودة لكتب التاريخ العالمي، تعود مرة أخرى منذ أواخر القرن السادس ومنتصف القرن الثامن ممثلة بـ:‏

‏(المنتظم) لابن الجوزي (ت : 517 هـ) : وهذا الكتاب لا يعطينا صورة دقيقة لمؤلف في التاريخ العام رغم ضخامته، وخاصة في نصفه الثاني المطبوع، إذ أنه أعطى التراجم حجما أوسع من الأحداث، كما أنه يفتقد الشمول فيمن تحدث عنهم، فلم يكد يتجاوز بغداد وأحداث رجال العراق الذين ترجم لهم (21).‏

‏ أما المؤلف الثاني فهو:‏

‏(الكامل في التاريخ) لابن الأثير (ت : 630 هـ) : وهذا الكتاب يعتبر أكثر انسجاما مع الخط العام في التواريخ العالمية، وهو يسلك مسلك الطبري من حيث تقسيم الكتاب إلى قسمين : ما قبل الإسلام، والقسم الإسلامي، غير أنه اختلف عن منهج الطبري، وذلك بتجاوزه للإسناد الذي اتبعه الطبري في تاريخه (22).‏

‏ ولا يختلف (مرآة الزمان) لسبط بن الجوزي (ت : 654 هـ) عن (الكامل في التاريخ)، إلا في أنه يضع في نهاية حوادث كل عام -عندما يتحول الحديث إلى الفترة الإسلامية- أسماء من توفي من الأعيان والأعلام (23).‏

‏ وضمن هذا الخط، خط التاريخ العام، نلتقي أبا الفداء، الحافظ ابن كثير الدمشقي (ت : 774 هـ) ، وهو من المعاصرين لابن خلدون، وكتابه (البداية والنهاية) لا يختلف في منهجيته عن الذين سبقوه من المؤرخين المسلمين من حيث تقسيمه الكتاب إلى فترتين : ما قبل الإسلام، والفترة الإسلامية .. وهو منساق أيضا وراء فكرة (وحدة الرسالات)، وفكرة (البطل)، اللتين تعدان جوهر منظوره الحضاري (24).‏

‏ لقد تميزت كتب التاريخ العام، التي ظهرت خلال الفترة المحصورة بين القرنين السابع والثامن عن سابقاتها من عيون كتب التاريخ العام، كاليعقوبي والطبري والمسعودي والمقدسي ومسكويه، بميزات منهجية فقط فقد أضافت مادة جديدة إلى موادها أخذتها من كتب التراجم، حتى ظهرت هذه وكأنها ذيل متمم لمادة القسم الإسلامي منها، كما وضعت في نهاية حوادث كل سنة بابا للوفيات، حيث دمج المؤرخون منذ أواخر القرن السادس تاريخ الرجال مع الأحداث فالتقى في مدوناتهم فرعا التاريخ الأحداث، والتراجم (25).‏

ثانيا : الطبقات والتراجم.‏

‏ كانت السيرة النبوية التي عني بجمعها وتدوينها فقهاء ومحدثون كعروة بن الزبير وشرحبيل بن سعد وأبان بن عثمان، مثالا يحتذى لدى المؤرخين، نسجوا على منوالها سير الخلفاء فيما بعد، وإن كانت كتاباتهم قد تضمنت قيما ومثلا جديدة، كسيرة الخليفة العادل عمر ابن عبد العزيز .. كما كانت الحروب الصليبية والنجاحات التي تمخضت عنها، حافزا لكتابة سير بعض السلاطين والزعماء الذين تصدوا لهذا الخطر، فالذين كتبوا سير مودود وعماد الدين زنكي، ونور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي، إنما انطلقوا من دور هؤلاء البارز في التصدي للعدوان الصليبي، ولهذا ظهرت ما يمكن تسميته (بالسير الملكية) (26) .. أما الطبقات والتراجم فقد ظهرت منذ زمن مبكر في الأدب العربي، وتعتبر من إبداعات الحضارة العربية الإسلامية، كما وتعد فنا فريدا من فنون التاريخ لا نجد لها شبيها في آداب أية أمة من الأمم الأخرى إلا في عصرنا الراهن (27) .. ظهر فن التأليف في الطبقات والتراجم، نتيجة لحاجة العلماء المعنيين بتدوين الحديث معرفة سير رجال الأسانيد أو رواة الحديث، بهدف التحقق من صدقهم طبقا لمنهج (الجرح والتعديل)، الذي اتبعه المحدثون، فظهرت في البداية طبقات المحدثين (28).‏

‏ بعد ذلك تنبه بعض العلماء إلى وضع تراجم أخرى لطبقات الرجال الذين تتفق توجهاتهم وتخصصاتهم، فتتوحد في لون واحد من العلم، فظهرت كتب طبقات الصحابة، وطبقات المفسرين، وطبقات القراء، وطبقات النحاة، وطبقات الشعراء، وطبقات الأطباء، وغيرهم (29).‏

‏ ولابد من الإشارة إلى اختلاف غايات أصحاب كتب الطبقات والتراجم، فبعضهم كما سنرى ألف تبعا لغاية دينية، وآخرون من وجهة نظر دنيوية، بينما نرى عند آخرين أن تآليفهم تجئ تحت إلحاح غايات مذهبية .. وأقدم كتب الطبقات هي:‏

كتاب "الطبقات" لخليفة بن خياط (ت :240 هـ) ، الذي وضع فيه ابن خياط الصحابي كبطل صانع لحوادث التاريخ، وهذا هو منطلق خليفة الحضاري (30) .. أما ابن سعد (ت : 230 هـ) ، فقد جعل السابقة في الإسلام أساس التمايز بين الصحابة، ففي كتابه (الطبقات الكبرى) جعل البدريين الطبقة الأولى، ومن له إسلام قديم وهاجر إلى الحبشة أو شهد أحدا، ومن أسلم قبل فتح مكة جعلهم الطبقة الثانية، وهكذا (31).‏

‏ هذا وقد أصبحت طبقات خليفة بن خياط وطبقات ابن سعد، أنموذجا سار على منواله واعتمد عليه البخاري (ت : 256 هـ) في كتابه (التاريخ الكبير)، وابن عبد البر (ت : 463 هـ) في كتابه (الاستيعاب لمعرفة الأصحاب)، وأبو نعيم (ت : 430 هـ) في كتابه (حلية الأولياء)، وقد بقي هذا التقليد شائعا حتى منتصف القرن الثامن الهجري، حيث يمثل الذهبي (ت : 748 هـ) أبرز من اهتم بنظام الطبقات وخاصة في كتابه (المجرد في أسماء رجال كتاب ابن ماجه) (32).‏

‏ كذلك فإن هذا التقليد في ترتيب الصحابة والمحدثين إلى طبقات قد امتد إلى كتب التراجم الأخرى، كطبقات الشعراء لمحمد بن سلام الجمحي (ت : 232 هـ) ، وطبقات القراء لخليفة بن خياط (ت : 240 هـ) ، وطبقات الصوفية لأبي عبد الرحمن السلمي (412 هـ) ، وطبقات الفقهاء لأبي إسحاق الشيرازي (ت :476 هـ) وغيرهم (33).‏

‏ ومما تجدر ملاحظته أن المنظور الحضاري لمعظم مؤلفي كتب الطبقات والتراجم، قد انطلق من منطلقات دينية أو ثقافية.‏

‏ فالسلمي (ت : 412 هـ) في كتابه (طبقات الصوفية) يعكس منظوره الحضاري النظرة الدينية، لأن المتصوفة في نظره هم (أرباب حقائق التوحيد) (34) ، كذلك نجد هذه النظرة الدينية في منظور أبي نعيم الأصبهاني (ت :430 هـ) في كتابه (حلية الأولياء وطبقات الأصفياء) (35).‏

‏ ويستمر المنظور الحضاري في منطلقاته الدينية في بعض التراجم، التي قد تبدو لنا لأول وهلة أن صلتها بالناحية الدنيوية الاجتماعية أكثر من صلتها بالدين، كالأنساب مثلا، في حين نجد أنه حتى في مثل هذه التآليف، فإن منطلقات مؤلفيها دينية، فمثلا نلاحظ في كتاب (جمهرة أنساب العرب) أن ابن حزم (ت : 456 هـ) ، عني بالأنساب، لأنه يرى أن دراسة الأنساب فرض كفاية أيضا : (فأما الغرض من علم النسب، فهو أن يعلم المرء أن محمدا صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله تعالى إلى الجن والإنس بدين الإسلام، هو محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي، الذي كان بمكة ورحل إلى المدينة) (36).‏

‏ وهكذا يكتسب النسب في منظور ابن حزم قيمته الدينية التي تفوق قيمته الاجتماعية .. كذلك نجد هذا المنظور الديني واضحا لدى ابن عبد البر (ت : 463 هـ) ، في كتابه (الاستيعاب في معرفة الأصحاب) (37) ، حيث يعتبر الصحابة هم أولى الناس بالمعرفة، لأنهم هم الذين نقلوا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ووعوها، وهي الركن الثاني بعد كتاب الله في قيمتها التشريعية والدينية (38).‏

‏ أما ياقوت الحموي (ت : 626 هـ) فعلى الرغم مما يوحي به كتابه (معجم الأدباء) (39)، من نزعة ثقافية دنيوية، فإن ياقوت يغوص في أبعاد العلم، ليجد فيه الجانب الديني قائما واضحا، فيقول عن كتابه إنه جمع فيه : "أخبار قوم عنهم أخذ علم القرآن المجيد، والحديث المفيد، وبصناعتهم تنال الإمارة .. وبعلمهم يتم الإسلام، وباستنباطهم يعرف الحلال من الحرام" (40).‏

‏ وما وجدنا عند ياقوت وجدناه عند ابن أبي أصيبعة (ت : 868 هـ) في مصنفه عيون الأنباء في طبقات الأطباء (41) ، فهو أيضا أسير النظرة الدينية، فصناعة الطب في نظره (من أشرف الصنائع وأربح البضائع، وقد ورد تفصيلها في الكتب الإلهية والأوامر الشرعية، حتى جعل علم الأبدان قريبا لعلم الأديان) (42).‏

‏ ويقدم ابن خلكان (ت : 681 هـ) رأيا آخر في عنايته بالسير، ولا يرجع ذلك إلى أية نظرة دينية، بل مرد اهتمامه بسير بعض المتقدمين هو ولعه الشخصي بالاطلاع على أخبار النابهين، فالنباهة والذكاء والفطنة التي تميز بها بعض الناس، هي التي جعلت ابن خلكان يضع مصنفه (وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان) (43) .. كذلك تقوم نظرة السبكي (ت : 771 هـ) في كتابه (طبقات الشافعية الكبرى) (44) ، إذ أصبح العالم في نظره يحتل مكانة أرفع وأعلى من مكانة أصحاب التيجان.‏

‏ وعلى منوال السبكي سار كل من محمد بن شاكر الكتبي (ت : 764 هـ) في كتابه فوات الوفيات، وصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي (ت : 764 هـ) في كتابه (الوافي بالوفيات) (45).‏

‏ وإذا كان ابن خلكان قد ترجم للنابهين، وتابعه في ذلك إلى حد ما الكتبي، الذي أضاف على تراجم ابن خلكان بعض التراجم للخلفاء والمميزين الذي أغفلهم ابن خلكان، غير أن هذه النظرة الشمولية استمرت في تراجم بعض المؤلفين اللاحقين، كالسخاوي (46) والسيوطي (47) ، فصارت تشمل المشهورين من الناس إلى جانب آخرين لم يكونوا على حظ وافر من الشهرة في التاريخ، استنادا إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم : " أنزلوا الناس منازلهم" (48).‏

ثالثا : التواريخ المحلية والإقليمية والمنظور الحضاري

‏ تعد التواريخ المحلية أو تواريخ المدن، والتواريخ الإقليمية، إحدى أنماط التدوين التاريخي العربي الإسلامي، ومنذ عهد مبكر ظهرت تواريخ لبعض المدن الإسلامية (التواريخ المحلية) ، كما ظهرت تواريخ إقليمية لبعض أقاليم ديار الإسلام، فقد ألف ابن زبالة كتابه : (أخبار المدينة) في حدود سنة (199 هـ) (49) ، كما ألف الأزرقي (ت : 244 هـ) كتابه : (أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار)، وألف بحشل (ت :292 هـ) (تاريخ واسط)، وكتب أبو الشيخ الأنصاري (ت : 369 هـ) كتابه (طبقات المحدثين بأصبهان والواردين عليها) . وألف حمزة السهمي (ت : 427 هـ) كتابه تاريخ جرجان كذلك ألف أبو نعيم الأصبهاني (ت : 430 هـ) كتابه (ذكر أخبار أصبهان). كما ألف الخطيب البغدادي (ت : 463 هـ) (تاريخ بغداد) وألف ابن عساكر (ت : 557 هـ) كتابه (تاريخ دمشق). وفي الأندلس ألف الوزير لسان الدين بن الخطيب (ت : 776 هـ) كتابه (الإحاطة في أخبار غرناطة).كما ظهرت تآليف أخرى شملت إقليما بعينه، وهذا يعني أن الاهتمام تجاوز مدينة بعينها في ذلك الإقليم.‏

‏ وفي هذا المجال فقد وصلنا لابن عبد الحكم (ت : 257 هـ) كتابه : (تاريخ فتوح مصر والمغرب والأندلس) . والهمداني (ت : 334 هـ) في كتابه (الإكليل) الذي وضعه في تاريخ اليمن وابن حيان القرطبي (ت : 469 هـ) في كتابه (المقتبس من أنباء أهل الأندلس)، وهناك غيرها كثير.‏

‏ كان الدافع لتأليف تواريخ عن بعض المدن دافعا دينيا، فابن زبالة عندما يؤلف كتابا في (أخبار المدينة)، فلأنها مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقاعدة دولته، ومسرح نشاطاته الدينية والعسكرية والسياسية.‏

‏ كذلك فإن تأليف الأزرقي لكتابه أخبار مكة، فمن نفس المنظور الذي انطلق منه ابن زبالة، فمكة هي التي شهدت مولده ، وشبابه ودعوته كما أنها قبلة المسلمين وفيها المسجد الحرام، الأمر الذي يعطيها قيمة دينية كبيرة في نظر المسلمين، ولذا نجد الأزرقي يحشد الكثير من الروايات في فضائل مكة وقدسيتها (50).‏

‏ ومما يجدر ذكره أن (أخبار المدينة)، و(أخبار مكة) لا يعنيان بتراجم المحدثين أو العلماء والفقهاء الذين سكنوا هاتين المدينتين، وخاصة أخبار مكة ولعل بحشل (ت : 292 هـ) في كتابه (تاريخ واسط) ، يعد أول من اهتم بذكر رجال وعلماء مدينته، مما جعل كتابه أنموذجا يحتذى من قبل أصحاب التواريخ المحلية (51).‏

‏ وقد حاول بحشل لكي يضفي على مدينته شيئا من الأهمية، أن يضفي على موقعها شيئا من القداسة، بحيث كانت السبب وراء اختيار الحجاج لموقع واسط .. وهذه القدسية تتكرر عند معظم الذين كتبوا في التواريخ المحلية، إما بكونها مدينة أنبياء أو صحابة، أو أنها مباركة بدعوة نبي أو رسول، وهذا المنظور الديني الحضاري يضفي على النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابي، والصوفي، والفقيه، قيمة ودورا في حياة الأمة، يتضاءل عندها دور الحاكم أو السياسي (52). ‏

‏ إن استمرار التأليف في تواريخ المدن، أو التواريخ المحلية، أظهر المدن باعتبارها وحدات حضارية فكرية .. ففي كتابه (طبقات المحدثين بأصبهان)، لأبي الشيخ الأنصاري (ت : 369 هـ) ، تحدث في المقدمة عن طوبوغرافية المدينة، ثم انتقل إلى الحديث عن فضائل أصبهان، ثم ذكر أعداد الصحابة الذين نزلوا بها وهم ثمانية عشر صحابيا، بينهم سلمان الفارسي رضي الله عنه، الذي أخذت ترجمته نصف ما خصص لبقية الصحابة (53).‏

‏ ومن الجدير بالذكر أن التأليف في تواريخ المدن أو التواريخ المحلية، ربما يعكس تعصب المؤلف لمدينته.‏

‏ فمثلا الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ينفي عنها ما روي فيها من حديث بذمها وتوعدها، وبالعكس فإنه يحشد عددا من الأقوال في فضائل بغ داد وخيرها وبركتها (54) ، كذلك نجد تشابها في المواقف لابن عساكر في فضائل مدينته دمشق، مع مواقف الخطيب البغدادي، على أن هذه العصبية للأمصار كانت ظاهرة إيجابية، لأنها حفظت للأجيال اللاحقة الشيء الكثير من جوانب الثقافة والفكر في الحضارة الإسلامية .. وهكذا فإذا اتجهنا نحو الأندلس، نجد العصبية واضحة في تأليف الوزير لسان الدين بن الخطيب لكتابه عن مدينته (الإحاطة في أخبار غرناطة)، بعدما يستعرض الكتب التي ألفت عن بعض الأمصار الإسلامية، يقول : "فداخلتني عصبية لا تقدح في دين ولا منصب، وحمية لا يذم في مثلها متعصب" (55).‏

‏ وهكذا ظهرت هذه التواريخ، لتقدم خدمة جليلة للثقافة العربية الإسلامية .‏

التواريخ الإقليمية:‏

‏ وهي تقع موقعا وسطا بين التواريخ المحلية أو تواريخ المدن وبين التواريخ العالمية، أما أسباب ظهورها فتتصل أيضا بأسباب ظهور التواريخ المحلية أو تواريخ المدن، وهي العصبية للأمصار، والعامل الديني، ويضاف إلى ذلك العامل السياسي لظهور التواريخ الأندلسية، بسبب عزلة هذه الجزيرة عن بقية ديار الإسلام، كما أننا يمكن أن نضيف عاملا آخر وهو أن أهل كل بلد أعرف بأحوال وأخبار بلدهم (56).‏

‏ وأقدم التواريخ الإقليمية التي وصلتنا هي:‏

فتوح مصر وأخبارها، لأبي القاسم عبد الرحمن بن عبد الله ابن عبد الحكم (ت : 257 هـ) (57) : ولكي يضفي ابن عبد الحكم على مصر وأهلها شيئا من القيمة الدينية، فإنه ابتدأ في الصفحة الثانية من الكتاب بذكر وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبط، ويذكر في هذا الصدد أحاديث نسبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنبأ فيها بفتح المسلمين لمصر من بعده، ثم يوصيهم خيرا بأهلها (58) .. والتماس الأثر الديني واضح في تبريره لتأليف الكتاب، إضافة إلى أثر التعصب الإقليمي .. والذي يهمنا من هذا الكتاب، هو منظور ابن عبد الحكم، الذي ينطلق من اهتمامه بالصحابة الذين حلوا مصر، والذين رووا عنهم أهل مصر، وهو ما يبين عنايته برجال الثقافة والعلم في تلك الحقبة، الذين هم حملة حديث الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم .‏

‏ أما في أقصى الزاوية الجنوبية الغربية من الجزيرة العربية، فنلتقي بمؤلف آخر من مؤلفي التواريخ الإقليمية، وهو لسان اليمن أبي محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني (ت : 334 هـ) ، وكتابه (الإكليل من أخبار اليمن وأنساب حمير )(59).‏

‏ وهذا الكتاب يعكس منظور الهمداني الاجتماعي، إذ خصصه في سرد أنساب أهل اليمن منذ فترات بعيدة عن الإسلام وحتى عصره في القرن الرابع الهجري .. وإذا كانت المنطلقات الأساسية في التواريخ الإقليمية، التي مر ذكرها، منطلقات دينية مرصعة بشيء من العصبية للمصر المعني، فإن هذا المنظور يختفي في (الإكليل)، ولا نحس إلا بروح المباهاة والمفاخرة في سرد أنساب اليمن، لبيان ما كان لأهلها من ملك وسلطان قبل الإسلام، مقابل المجد والعز الذي ناله عرب الشمال وعلى رأسهم قريش في الإسلام.‏

‏ وإذا يممنا شطر أقصى بلاد الغرب الإسلامي آنذاك، فإننا نلتقي بمؤرخ إقليمي أندلسي هو:‏

أبو حيان القرطبي (ت : 469 هـ) ، صاحب كتاب : (المقتبس من أنباء أهل الأندلس) (60).‏

‏ يعتبر القرطبي أشهر مؤرخي الأندلس على الإطلاق، والشاهد على ذلك الدقة والضبط، اللتان تميز بهما عمله في (المقتبس).‏

‏ لقد توزع منظور ابن حيان بين هموم بلده في مواجهة التحديات التي تفرضها عليه الممالك النصرانية في الشمال، والتحركات الداخلية في العدوة المغربية، وبين الاهتمام بالجوانب الثقافية والحضارية.‏

وهناك مؤرخ أندلسي آخر وهو:‏

ابن بسام (ت : 554 هـ) ، صاحب كتاب : (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة) (61) ، والعنوان يدل على تعصب ابن بسام لمصره الأندلس، وفي مقدمة الكتاب نجده يشيد ببراعة الأندلسيين في النثر والنظم : (… ومازال في أفقنا هذا الأندلس القصي إلى وقتنا هذا، من فرسان الفنين وأئمة النوعين، قوم هم ما هم، طيب مكاسر، وصفاء جواهر، وعذوبة موارد ومصادر) (62) ، ثم ينتقد أهل بلده الذين يروون الأدب والعلم عن أهل المشرق .. كذلك فإنه يبين انسياح العلماء والفقهاء بين ديار الإسلام دون قيود، فيذكر بعض الفقهاء والعلماء والكتاب المشارقة، الذين قدموا الأندلس مثل : أبو الفضل البغدادي، وأبو الفتح الجرجاني، والشريف الرضي، ومهيار الديلمي، وأبو القاسم المغربي، وابن رشيق، وأبو منصور الثعالبي (63) ، وهذا ما يدل على انفتاح المدينة العربية الإسلامية في تلك العصور، لاحتضان العلماء والكتاب والشعراء والفقهاء، دون أن تكون قلعة مغلقة.‏

ابن خلدون وفلسفة التاريخ

‏ يبدو أن مهمة (علم العمران) كما تصورها ابن خلدون هي (تمحيص الأخبار)، على أن الدراسة المتأنية لعلم العمران الخلدوني، تخرج باستنتاجات عديدة عن هوية علم العمران فهل يمكن أن يعد (علم الاجتماع) أو (فلسفة التاريخ)، أو هو علم في المنهج، على غرار المنطق، أو هو فلسفة سياسية؟ (64).‏

‏ إن دراسة ابن خلدون للظواهر الاجتماعية، يمكن أن ترتقي بعلمه الجديد (علم العمران)، إلى مصاف الدراسات التي تتصل في صميم فلسفة التاريخ، وبالتالي فإن ابن خلدون يمكن أن يكون أول فيلسوف للتاريخ، وأول من فلسفه، بل ويكون منشئ فلسفة التاريخ على صعيد الفكر الإنساني (65).‏

‏ لقد استخدم فولتير مصطلح (فلسفة التاريخ)، لأول مرة في القرن الثامن عشر، في كتابه الموسوم (طبائع الأمم وفلسفة التاريخ)، الذي أصدره سنة (1756م) (66) ، لقد كان فولتير يعني به دراسة التاريخ الحضاري للأمم من وجهة نظر عقلية ناقدة، ثم توالت الدراسات في هذا الحقل، وأصبحت له مقومات معينة يقوم عليها هي :‏

‏1- الكلية : تهدف فلسفة التاريخ إلى البحث عن المعاني الكلية في أحداث التاريخ وتجميعها في مختلف العصور، بغية الوصول إلى قوانين كلية تفسر لنا التاريخ الإنساني.‏

‏2-العلية : هي اتجاه فلسفة التاريخ، تقوم على تجاوز العلل الجزئية التي يفسر بها المؤرخون الوقائع الفردية المحصورة في زمان ومكان محددين، إلى محاولة العثور على (علة عامة) أو أكثر، لتفسير مجمل حوادث التاريخ الإنساني.‏

‏ وبهذا فإن مقولات التاريخ تختلف عن مقولات فلسفة التاريخ اختلافا جوهريا، فأصبحت النظرة الكلية بديلا عن النظرة الفردية، كما تجاوزت فلسفة التاريخ مقولتي الزمان والمكان إلى ما وراء الزمان والمكان (67).‏

‏ لقد تنبه الكثير من الباحثين وخاصة في الغرب، إلى أن مقدمة ابن خلدون التي كتبت في القرن الثامن الهجري، والتي سبقت مؤلف فولتير آنف الذكر بأربعة قرون تقريبا، قد تضمنت (فلسفة للتاريخ)، وهذا برر إعلانهم عن أن ابن خلدون يعد المؤسس الحقيقي لفلسفة التاريخ، أو بعبارة أخرى هو رائد ومؤسس هذا النوع من الدراسة (68).‏

‏ لقد حاول ابن خلدون أن يدرس تاريخ أوسع مساحة من العالم التي سنحت له فرص دراستها، فقد درس تاريخ شمال أفريقيا والأندلس، وتاريخ الدولة العربية الإسلامية في الشرق، إضافة إلى تواريخ الفرس والروم .. وقد حاول ابن خلدون أن يخرج بهذه الدراسة عن نظريات عامة عن العصبية والدولة والحضارة، والظاهرات الاجتماعية، مما يجعل من ابن خلدون رائدا لدراسة التاريخ على أساس حضاري (69).‏

‏ وإذا كان بعض الباحثين انتقد ابن خلدون، لأن دراساته في نظرهم، تفتقد إلى (الصفة الكلية)، لأنه لم يقم باستقراء شامل لتاريخ العالم، حيث قصر دراسته على تاريخ العرب، بمشرقه ومغربه (70) ، فإن الدكتور الملاح يرى أن هذا الحكم فيه بعض المبالغة، إذ أن دراسة ابن خلدون تضمنت إضافة إلى التاريخ الإسلامي، تواريخ بعض الإمبراطوريات القديمة التي سبقت المسلمين أو عاصرتهم، كما أن تخلف المواصلات في العصور الوسطى تعطي العذر لابن خلدون في ضيق مجال دراساته (71).‏

العلية : أما بحث ابن خلدون في مقدمته عن العلة أو العلل في التاريخ، فقد أوضح أن التاريخ (هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأول) (72).‏

‏ غير أنه يرى أن هذه الأخبار من التاريخ، تمثل الأمور الظاهرية، التي يتساوى في فهمها العلماء والجهال، بينما هو يتجاوز هذه المظاهر إلى البحث عن العلل والأسباب المحركة للأحداث .. يقول ابن خلدون في وصف مهمة التاريخ الرئيسة : (وفي باطنه نظر وتحقيق، وتحليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق) (73).‏

‏ وهكذا فإن ما يهم ابن خلدون من التاريخ، النظر في بواطنه، وليس في ظاهره، ولذا فقد توصل ابن خلدون إلى دراسة التاريخ وفقا لمنهج يمكن عده من ضمن الدراسات الفلسفية : (الحكمة) .. فالتاريخ طبقا لمنظور ابن خلدون، (أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق) (74).‏

‏ لقد كان ابن خلدون مدينا لتراث أمته في بلورة نظرية (علم العمران)، على أن ملكاته وقدراته ومواهبه وعبقريته، كان لها جميعا أكبر الأثر في النجاح الذي أحرزه في ميدان التفسير الحضاري للتاريخ.‏

‏ ورغم مرور ما ينيف على ستة قرون على وفاة ابن خلدون، فإنه ما يزال يشغل أذهان الباحثين والمفكرين المعاصرين.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.