الفصل السادس عشر في أنالصنائع لا بد لها منالعلمإعلم أن الصناعة هي ملكة في أمرعملي فكري وبكونه عملياً هو جسماني محسوس. والأحوال الجسمانية المحسوسة نقلها بالمباشرةأوعب لها وأكمل لأن المباشرة في الأحوال الجسمانية المحسوسة أتم فائدة والملكة صفةراسخة تحصل عن استعمال ذلك الفعل وتكرره مرة بعد أخرى حتى ترسخ صورته. وعلى نسبةالأصل تكون الملكة. ونقل المعاينة أو عب وأتم من نقل الخبر والعلم. فالملكةالحاصلة عنه أكمل وأرسخ من الملكة الحاصلة على الخبر. وعلى قدر جودة التعليم وملكةالمعلم يكون حذق المتعلم في الصناعة وحصول ملكته. ثم إن الصنائع منها البسيطومنها المركب. والبسيط هو الذي يختص بالضروريات والمركب هو الذي يكون للكماليات.والمتقدم منها في التعليم هو البسيط لبساطته أولاً ولأنه مختص بالضروري الذي تتوفرالدواعي على نقله فيكون سابقاً في التعليم ويكون تعليمه لذلك ناقصاً. ولا يزالالفكر يخرج أصنافها ومركباتها من القوة إلى الفعل بالاستنباط شيئاً فشيئاًعلى التدريج حتى تكمل. ولا يحصل ذلك دفعة وإنما يحصل في أزمان وأجيال إذ خروج الأشياءمن القوة إلى الفعل لا يكون دفعة لا سيما في الأمور الصناعية. فلا بد له إذنمن زمان. ولهذا تجد الصنائع في الأمصار الصغيرة ناقصة ولا يوجد منها إلاالبسيط فإذا تزايدت حضارتها ودعت أمور الترف فيها إلى استعمال الصنائع خرجت من القوةإلى الفعل. وتنقسم الصنائع أيضاً: إلى ما يختص بأمر المعاش ضرورياً كانأو غير ضروري وإلى ما يختص بالأفكار التي هي خاصية الإنسان من العلوم والصنائع والسياسة.ومن الأول الحياكة والجزارة والنجارة والحدادة وأمثالها. ومن الثاني الوراقةوهي معاناة الكتب بالانتساخ والتجليد والغناء والشعر وتعليم العلم وأمثالذلك. ومن الثالث الجندية وأمثالها. والله أعلم.
الفصل السابع عشر في أنالصنائع إنما تكمل بكمالالعمران الحضري وكثرتهوالسبب في ذلك أن الناس وما لميستوف العمران الحضري وتتمدن المدينة إنماهمم في الضروري من المعاش وهو تحصيل الأقوات من الحنطة وغيرها. فإذا تمدنت المدينةوتزايدت فيها الأعمال ووفت بالضروري وزادت عليه صرف الزائد حينئذ إلى الكمالاتمن المعاش. ثم إن الصنائع والعلوم إنما هي للإنسان من حيث فكره الذي يتميزبه عن الحيوانات والقوت له من حيث الحيوانية والغذائية فهو مقدم لضرورته على العلوموالصنائع وهي متأخرة عن الضروري. وعلى مقدار عمران البلد تكون جودة الصنائعللتأنق فيها حينئذ واستجادة ما يطلب منها بحيث تتوفر دواعي الترف والثروة.وأما العمران البدوي أو القليل فلا يحتاج من الصنائع إلا البسيط خاصة المستعملفي الضروريات من نجار أو حداد أو خياط أو حائك أو جزار. وإذا وجدت هذه بعدفلا توجد فيه كاملة ولا مستجادة. وإنما يوجد منها بمقدار الضرورة إذ هي كلها وسائلإلى غيرها وليست مقصودة لذاتها. إذا زخر بحر العمران وطلبت فيه الكمالات كانمن جملتها التأنق في الصنائع واستجادتها فكملت بجميع متمماتها وتزايدت صنائع أخرىمعها مما تدعو إليه عوائد الترف وأحواله من جزار ودباغ وخراز وصائغ وأمثال ذلك.وقد تنتهي هذه الأصناف إذا استبحر العمران إلى أن يوجد فيها كثير من الكمالاتويتأنق فيها في الغاية وتكون من وجوه المعاش في المصر لمنتحلها. بل تكون فائدتهامن أعظم فوائد الأعمال لما يدعو إليه الترف في المدينة مثل الدهان والصفار والحماميوالطباخ والسفاج والهراس ومعلم الغناء والرقص وقرع الطبول على التوقيع ومثلالوراقين الذين يعانون صناعة انتساخ الكتب وتجليدها وتصحيحها فإن هذه الصناعة إنمايدعو إليها الترف في المدينة من الاشتغال بالأمور الفكرية وأمثال ذلك. وقد تخرجعن الحد إذا كان العمران خارجاً عن الحد كما بلغنا عن أهل مصر أن فيهم من يعلم الطيورالعجم والحمر الإنسية ويتخيل أشياء من العجائب بإيهام قلب الأعيان وتعليم الحداءوالرقص والمشي على الخيوط في الهواء ورفع الأثقال من الحيوان والحجارة وغير ذلكمن الصنائع التي لا توجد عندنا بالمغرب. لأن عمران أمصاره لم يبلغ عمران مصر والقاهرة.أدام الله عمرانها بالمسلمين. والله الحكيم العليم.
الفصل الثامن عشر في أنرسوخ الصنائعفي الأمصار إنما هو برسوخ الحضارةوطول أمدها والسبب في ذلك ظاهر وهو أن هذه كلها عوائد للعمران والوأم. والعوائد إنماترسخ بكثرة التكرار وطول الأمد فتستحكم صبغة ذلك وترسخ في الأجيال. وإذا استحكمتالصبغة عسر نزعها. ولهذا فإنا نجد في الأمصار التي كانت استبحرت في الحضارةلما تراجع عمرانها وتناقص بقيت فيها آثار من هذه الصنائع ليست في غيرها من الأمصارالمستحدثة العمران ولو بلغت مبالغها في الوفور والكثرة. وما ذاك إلا لأن أحوالتلك القديمة العمران مستحكمة راسخة بطول الأحقاب وتداول الأحوال وتكررها وهذهلم تبلغ بعد. وهذا كالحال في الأندلس لهذا العهد فإنا نجد فيها رسوم الصنائعقائمة وأحوالها مستحكمة راسخة في جميع ما تدعو إليه عوائد أمصارها كالمباني والطبخوأصناف الغناء واللهو من الآلات والأوتار والرقص وتنضيد الفرش في القصور وحسنالترتيب والأوضاع في البناء وصوغ الآنية من المعادن والخزف وجميع المواعين وإقامةالولائم والأعراس وسائر الصنائع التي يدعو إليها الترف وعوائده. فتجدهم أقومعليها وأبصر بها. وتجد صنائعها مستحكمة لديهم فهم على حصة موفورة من ذلك وحظمتميز بين جميع الأمصار. وإن كان عمرانها قد تناقص والكثير منه لا يساوي عمرانغيرها من بلاد العدو. وما ذاك إلا لما قدمناه من رسوخ الحضارة فيهم برسوخ الدولةالأموية وما قبلها من دولة القوط وما بعدها من دولة الطوائف وهلم جرا. فبلغت الحضارةفيها مبلغاً لم تبلغه في قطر إلا ما ينقل عن العراق والشام ومصر أيضاً لطولآماد الدول فيها فاستحكمت فيها الصنائع وكملت جميع أصنافها على الاستجادة والتنميق.وبقيت صبغتها ثابتة في ذلك العمران لا تفارقه إلى أن ينتقض بالكلية حال الصبغإذا رسخ في الثوب. وكذا أيضاً حال تونس فيما حصل فيها من الحضارة من الدول الصنهاجيةوالموحدين من بعدهم وما استكمل لها في ذلك من الصنائع في سائر الأحوال وإنكان ذلك دون الأندلس. إلا أنه متضاعف برسوم منها تنقل إليها من مصر لقرب المسافةبينهما وتردد المسافرين من قطرها إلى قطر مصر في كل سنة. وربما سكن أهلها هناكعصوراً فينقلون من عوائد ترفهم وحكم صنائعهم ما يقع لديهم موقع الاستحسان. فصارتأحوالها في ذلك متشابهة من أحوال مصر لما ذكرناه ومن أحوال الأندلس لما أن أكثرساكنها من شرق الأندلس حين الجلاء لعهد المائة السابعة. ورسخ فيها من ذلك أحوالوإن كان عمرانها ليس بمناسب لذلك لهذا العهد. إلا أن الصبغة إذا استحكمت فقليلاًما تحول إلا بزوال محلها. وكذا نجد بالقيروان ومراكش وقلعة ابن حماد أثراً باقياًمن ذلك وإن كانت هذه كلها اليوم خراباً أو في حكم الخراب. ولا يتفطن لها إلاالبصير من الناس فيجد من هذه الصنائع آثاراً تدلة على ما كان بها كأثر الخط الممحوفي الكتاب. والله الخلاق العليم ". في أن الصنائع إنما تستجاد وتكثرإذا كثر طالبها والسبب في ذلك ظاهر وهو أن الإنسان لا يسمح بعمله أن يقع مجاناً لأنه كسبهومنه معاشه. إذ لا فائدة له في جميع عمره في شيء مما سواه فلا يصرفه إلا فيماله قيمة في مصره ليعود عليه بالنفع. وإن كانت الصناعة مطلوبة وتوجه إليها النفاقكانت حينئذ الصناعة بمثابة السلعة التي تنفق سوقها وتجلب للبيع فيجتهد الناس فيالمدينة لتعلم تلك الصناعة ليكون منها معاشهم. وإذا لم تكن الصناعة مطلوبة لمتنفق سوقها ولا يوجه قصد إلى تعلمها فاختصت بالترك وفقدت للإهمال. ولهذا يقال عنعلي رضي الله عنه: " قيمة كل امرئ ما يحسن ". بمعنى أن صناعته هي قيمتهأي قيمة عمله الذي هو معاشه. وأيضاً فهنا سر آخر وهو أن الصنائع وإجادتها إنما تطلبهاالدولة فهي التي تنفق سوقها وتوجه الطلبات إليها. وما لم تطلبه الدولة وإنمايطلبها غيرها من أهل المصر فليس على نسبتها لأن الدولة هي السوق الأعظم وفيها نفاقكل شيء والقليل والكثير فيها على نسبة واحدة. فما نفق فيها كان أكثرياً ضرورة.والسوقة وإن طلبوا الصناعة فليس طلبهم بعام ولا سوقهم بنافقة. والله سبحانهوتعالى قادر
الفصل العشرون في أنالأمصار إذا قاربت الخرابانتقصت منها الصنائعوذلك لما بيناه من أن الصنائعإنما تستجاد إذا احتيج إليها وكثر طالبها. فإذا ضعفت أحوال المصر وأخذ في الهرم بانتقاضعمرانه وقلة ساكنه تناقص فيه الترف ورجعوا إلى الاقتصار على الضروري من أحوالهمفتقل الصنائع التي كانت من توابع الترف. لأن صاحبها حينئذ لا يصح له بها معاشهفيفر إلى غيرها أو يموت ولا يكون خلف منه فيذهب رسم تلك الصنائع جملة كما يذهب النقاشونوالصواغون والكتاب والنساخ وأمثالهم من الصناع لحاجات الترف. ولا تزالالصناعات في التناقص ما زال المصر في التناقص إلى أن تضمحل. والله الخلاق العليمسبحانه وتعالى.
الفصل الحادي والعشرونفي أن العرب أبعد الناسعن الصنائعوالسبب في ذلك أنهم أعرق في البدووأبعد عن العمران الحضري وما يدعو إليه من الصنائع وغيرها. والعجم من أهل المشرق وأممالنصرانية عدوة البحر الرومي أقوم الناس عليها لأنهم أعرق في العمران الحضري وأبعدعن البحر وعمرانه. حتى إن الإبل التي أعانت العرب على التوحش في القفر والأعراقفي البدو مفقودة لديهم بالجملة ومفقودة مراعيها والرمال المهيئة لنتاجها.ولهذا نجد أوطان العرب وما ملكوه في الإسلام قليل الصنائع بالجملة حتى تجلب إليهمن قطر آخر. وانظر بلاد العجم من الصين والهند وأرض الترك وأمم النصرانية كيفاستكثرت فيهم الصنائع واستجلبها الأمم من عندهم. وعجم المغرب من البربر مثلالعرب في ذلك لرسوخهم في البداوة منذ أحقاب من السنين. ويشهد لك بذلك قلة الأمصاربقطرهم كما قدمناه. فالصنائع بالمغرب لذلك قليلة وغير مستحكمة إلا ما كانمن صناعة الصوف في نسجه والجلد في خرزه ودبغه. فإنهم لما استحضروا بلغوا فيهاالمبالغ لعموم البلوى بها وكون هذين أغلب السلع في قطرهم لما هم عليه من حال البداوة.وأما المشرق فقد رسخت الصنائع فيه منذ تلك الأمم الأقدمين من الفرس والنبطوالقبط وبني إسرائيل ويونان والروم أحقاباً متطاولة فرسخت فيهم أحوال الحضارة ومنجملتها الصنائع كما قدمناه فلم يمح رسمها. وأما اليمن والبحرين وعمان والجزيرةوإن ملكه العرب إلا أنهم تداولوا ملكه آلافاً من السنين في أمم كثيرة منهم واختطواأمصاره ومدنه وبلغوا الغاية في الحضارة والترف. مثل عاد وثمود والعمالقةوحمير من بعدهم والتبابعة والأذواء فطال أمد الملك والحضارة واستحكمت صبغتها وتوفرتالصنائع ورسخت فلم تبل ببلى الدولة كما قدناه. فبقيت مستجدة حتى الآن. واختصتبذلك للوطن كصناعة الوشي والعصب وما يستجاد من حوك الثياب والحرير فيها. واللهوارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
الفصل الثانيوالعشرون في أن من حصلتله ملكة في صناعةفقل أن يجيد بعدها ملكة في أخرىومثال ذلك الخياط إذا أجاد ملكة الخياطة وأحكمها ورسخت في نفسه فلا يجيد من بعدها ملكةالنجارة أو البناء إلا أن تكون الأولى لم تستحكم بعد ولم ترسخ صبغتها. والسببفي ذلك أن الملكات صفات للنفس وألوان فلا تزدحم دفعة. ومن كان على الفطرة كان أسهللقبول الملكات وأحسن استعداداً لحصولها. فإذا تلونت النفس بالملكة الأخرىوخرجت عن الفطرة ضعف فيها الاستعداد باللون الحاصل من هذه الملكة فكان قبولها للملكةالأخرى أضعف. وهذا بين يشهد له الوجود. فقل أن تجد صاحب صناعة يحكمها ثم يحكممن بعدها أخرى ويكون فيهما معاً على رتبة واحدة من الإجادة. حتى إن أهل العلمالذين ملكتهم فكرية فهم بهذه المثابة. ومن حصل منهم على ملكة علم من العلوم وأجادهافي الغاية فقل أن يجيد ملكة علم آخر على نسبته بل يكون مقصراً فيه إن طلبه إلافي الأقل النادر من الأحوال. ومبني سببه على ما ذكرناه من الاستعداد وتلوينهبلون الملكة الحاصلة في النفس. والله سبحانه وتعالى أعلم و به التوفيق لا ربسواه.
الفصل الثالثوالعشرون في الإشارةإلى أمهات الصنائعاعلم أن الصنائع في النوع الإنسانيكثيرة لكثرة الأعمال المتداولة في العمران. فهي بحيث تشذ عن الحصر ولا يأخذها العد.إلا أن منها ما هو ضروري في العمران أو شريف بالموضوع فنخصها بالذكر ونترك ماسواها: فأما الضروري فكالفلاحة والبناء والخياطة والنجارة والحياكة وأما الشريفةبالموضوع فكالتوليد والكتابة والوراقة والغناء والطب. فأما التوليد فإنهاضرورية في العمران وعامة البلوى إذ بها تحصل حياة المولود ويتم غالباً. وموضوعهامع ذلك المولودون وأمهاتهم. وأما الطب فهو حفظ الصحة للإنسان ودفع المرضعنه ويتفرع عن علم الطبيعة وموضوعه مع ذلك بدن الإنسان. وأما الكتابة وما يتبعهامن الوراقة فهي حافظة على الإنسان حاجته ومقيمة لها عن النسيان ومبلغة ضمائر النفسإلى البعيد الغائب ومخلدة نتائج الأفكار والعلوم في الصحف ورافعة رتب الوجود للمعاني.وأما الغناء فهو نسب الأصوات ومظهر جمالها للأسماع. وكل هذه الصنائع الثلاثداع إلى مخالطة الملوك الأعاظم في خلواتهم ومجالس أنسهم فلها بذلك شرف ليس لغيرها.وما سوى ذلك من الصنائع فتابعة وممتهنة في الغالب. وقد يختلف ذلك باختلافالأغراض والدواعي. والله أعلم بالصواب.
الفصل الرابعوالعشرون في صناعة الفلاحةهذه الصناعة ثمرتها اتخاذ الأقواتوالحبوب بالقيام على إثارة الأرض لها وازدهارها وعلاج نباتها وتعهده بالسقي والتنمية إلىبلوغ غايته ثم حصاد سنبله واستخراج حبه من غلافه وإحكام الأعمال لذلك وتحصيل أسبابهودواعيه. وهي أقدم الصنائع لما أنها محصلة للقوت المكمل لحياة الإنسان غالباًإذ يمكن وجوده من دون جميع الأشياء إلا من دون القوت. ولهذا اختصت هذه الصناعةبالبدو. إذ قدمنا أنه أقدم من الحضر وسابق عليه فكانت هذه الصناعة لذلك بدويةلا يقوم عليها الحضر ولا يعرفونها لأن أحوالهم كلها ثانية عن البداوة فصنائعهمثانية عن صنائعها وتابعة لها. والله سبحانه وتعالى مقيم العباد فيما أراد.
العصبية والدولة في فكر ابن خلدون:حياة وأعمال المفكر والمؤرخالإسلامي عبد الرحمن ابن خلدون(1332/1406) حظيت بالبحث والتعليق بصورة واسعة علىكل المستويات الإقليمية والدولية، وخاصة لدى المستشرقين والمؤرخين والفلاسفةالعرب. وكانت مقدمته المشهورة وكتابه في التاريخ (العبر)، وكتبه الأخرى مادةللباحثين والدارسين. وطبعت ونشرت عشرات الكتب والدراسات العلمية حول أفكارهونظريته في تفسير التاريخ والعمران والاجتماع والاقتصاد وعلاقته بالسياسة. كمانشرت مئات البحوث والمقالات في الصحف والمجلات والدوريات العلمية في شتى اللغات،وجميعها تتناول بالدراسة والتحليل الفكر الخلدوني.
إضافة إلى كل الإنتاج الضخمالذي تولد عن أفكاره وأعماله في كثير من المجالات، فإن عقليته الفذة، وأعماله ماتزال تشد أهل البحث والفكر. ولا شك عندي أن الأجيال الحديثة من العرب والمسلمين فيحاجة إلى قراءة ودراسة ما تركه ابن خلدون من أعمال ما تزال مهمة لحياتها السياسيةوالاجتماعية والعلمية، ولعل موضوع (العصبية والدولة) عند العرب من أهم الموضوعاتالتي ما تزال تفعل فعلها في الحياة السياسية العربية. وقد خصص الدكتور محمد عابدالجابري - أستاذ الفلسفة في جامعة الرباط، هذا البحث بطريقة تحليلية تدفع القارئإلى التساؤل عن مدى تطابق تلك النظرية مع ما يجري الآن في كثير من الدول العربية.أي استخدام العصبية والقبلية في الحياة السياسية، والسيطرة من خلالها على مؤسساتالدولة تحت شعارات ومسميات حديثة، ولكن الجوهر يظل هو عصبية القبيلة."فالعصبية عند ابن خلدون تعني أساسا القوة الجماعية التي تمنح القدرة علىالمواجهة، وعنده أن أساس الرابطة العصبية النسب، والعصبية عند ابن خلدون لا تبرزولا تشتد إلا عندما يكون هناك خطر يهدد العصبة في مصلحتها المشتركة، وهي المصلحةالمرتبطة بأمور العيش". "والعصبية نوعان: عصبية خاصة، وعصبية عامة.فالعصبة التي يجمعها نسب خاص، أو قريب، تشكل عصبية خاصة. أم العصبيات الأكثراتساعا والأقل ترابطا، والتي يجمعها نسب عام أو بعيد، فهي تشكل العصبيةالعامة" ص259.
والرئاسة عند ابن خلدون حسبنظريته عن العصبية والدولة لا تكون لغير العصبية الحاكمة. والدولة -أو السلطة-عنده "هي الامتداد المكاني أو الزماني لحكم عصبية ما"، وفي نظريته عنالدولة وأبعادها الأفقية والعمودية، يرى أن هناك ما سماه (دولة شخصية)، وهي حكمشخص واحد من أهل العصبية صاحبة الملك والرئاسة (ص 321)، "شخص يملك، وعصبيةتحكم". ويصف الجيل الأول من العصبية الحاكمة بقوله: هو ذلك الجيل الذي قامبالثورة، فهو جيل بدوي نشأ في البادية وتربى فيها، واكتسب أخلاقه وطباعه، ومختلفمظاهر شخصيته وسلوكه. ورغم انتقاله إلى الحضر، فإن قرب عهده بعروبة البداوة، يجعلهلا يزال على خلق البداوة وخشونتها وتوحشها (ص 333). ويؤكد ابن خلدون مرارا وتكراراأن قوة الدولة من قوة العصبية والشوكة. كما يؤكد أن الاقتصاد هو المحرك لقوةالعصبية، وأن المال يساهم بشكل رئيس في بناء السلطة والاستبداد بها. يقول ابنخلدون: "أن الجباية في أول الدولة تتوزع على أهل القبيل، والعصبية بمقدارغنائهم وعصبيتهم" ص339.
"إن السلطة هنا ومايتبعها من جاه ونفوذ وثروة، هي جميعا لأهل العصبية كلهم، أما الموظفون الذين قديضطر رئيس الدولة إلى الاستعانة بهم في تسيير أمور الدولة فلا ينالهم إلا القليلالأقل، فهم لا يشاركون أهل العصبية الغالبة في ملكهم، ولا في ثمرات هذا الملك،وإنما ينالون أجورهم، ويكسبون بعض الجاه لكونهم فقط خداما للرئيس. إنهم ليسواشركاء في المجد، بل خدام العصبية صاحبة المجد والرئاسة .. إن العلاقة السائدة داخلالعصبية الحاكمة في هذا الطور الأول من أطوار الدولة هي بكلمة واحدة: المساهمة فيالسلطة، والمشاركة في الثروة الناجمة من الغنائم، غنائم النصر" ص 339.
وعلى نفس السياسة تكون علاقةالقبيلة الحاكمة المسيطرة مع القبائل الأخرى التي أصبحت تحت سلطتها، ومع سكانالمناطق الخاضعة لنفوذها، وهي علاقات تتسم بكثير من الرفق والتسامح (ص 340).
ويتحدث ابن خلدون عن أطوارالدولة ومراحل تكونها ونموها وسيطرتها واستبدادها، ثم تأتي مرحلة يسميها مرحلةالفراغ والدعة لتحصيل ثمرات الملك وتخليد الآثار وبعد الصيت، فسيتفرغ صاحب الدولةوسعه في الجباية -أي جمع الأموال- وتشييد المباني، وإجازة الوفود، والمباهاة بمالديه من قوات. ثم تأتي مرحلة -أو طور- الإسراف والتبذير، ويكون صاحب الدولة متلفالما جمع في سبيل الشهوات والملاذ والكرم على بطانته وفي مجالسه، مستفسدا لكبارالأولياء من قومه .. وفي هذا الطور تحصل في الدولة طبيعة الهرم، ويستولي عليهاالمرض .. ثم تنتقل الرئاسة والملك إلى عصبية أخرى لها مقومات انتزاع الملك .. وابنخلدون وصل إلى هذه النتائج من خلال قراءته لتاريخ الدول الإسلامية، كما أنه مارسالعمل السياسي في كل من المغرب والجزائر والأندلس لأكثر من عشرين عاما، وكانموسوعيا في ثقافته.
وإذا راجعنا تاريخ السلطة فيالعالم العربي عبر التاريخ وعبر الواقع الحاضر، نلاحظ بوضوح أن العصبية -أوالقبلية- كانت وما تزال هي أساس الملك والاستبداد، وحتى عندما حاولت بعض القوى أوالتيارات السياسية الحديثة أن تبني الدولة العصرية، وأن تدخل بعض القوانينوالنظريات السياسية والاقتصادية المنقولة عن الفكر السياسي الأوربي، فكر النهضةالأوربية، ظلت العصبية هي الأساس، وإن رفعت المجموعات الحاكمة شعار الثورة، أوالحزب الواحد، او العصبة العسكرية .. لكن هذا لا يعني أن التاريخ يعيد نفسه بكلتفاصيله. إنما يمكن الاستفادة من عبر التاريخ ودروسه وتجارب الحكم فيه، ولذلكنلاحظ دخول الكثير من الشعارات والمصطلحات في الخطاب السياسي العربي، وظلت تلكالمصطلحات فارغة أو زائفة.
ويزعم البعض أن هناك أنظمةعربية علمانية، وهذا غير صحيح في رأيي، لأن العلمانية في النموذج الغربي ـوهو منبتالعلمانية- جاءت مصاحبة للدولة الديمقراطية الراسخة، كما هو الحال في بريطانيا أوفرنسا وغيرهما. أما عند العرب وحكوماتهم، فلا توجد دولة علمانية، ولا دولةديمقراطية. إنما هي كيانات مشوهة وهزيلة، وتدار بعقلية العصبية القبلية أو ماشابهها من التسميات الجديدة، مثل عصبية الحكم الواحد الذي تقوده أسرة واحدة، أومثل عصبية العسكر الذي تهيمن عليه أسرة واحدة، أو مجموعة من الأسر، لكن الجوهرواحد.
ورغم رفع شعار الديمقراطيةالمباشرة أو النيابية، فإن الديمقراطية التي تحقق المواطنة، وتساوي بين الناس،وتفتح الطرق للتداول سلميا على السلطة، لم تحدث في أي بلد عربي حتى الآن، وهذه منالأمور العجيبة حقا!!!
إن أي متأمل لحال العرباليوم لابد أن تشتد حيرته إزاء سياسات الدول العربية. إذ العالم تغير في نظرته إلىالسلطة في أميركا اللاتينية، وفي آسيا، وفي كثير من الدول الإفريقية، واتجه بقوةنحو الخيار الديمقراطي، وصناديق الاقتراع. بينما العصبيات العربية ترفض ذلك التوجهرغم الثروات النفطية، ورغم التقنية الحديثة، وهما عنصران مهمان في تسهيل عمليةالانتقال إلى طور الحياة الديمقراطية، ودولة القانون التي توفر الحياة الكريمة لكلمواطن، مهما كانت أسرته أو قبيلته أو لونه. هي الدولة التي توفر المناخ الاجتماعيوالاقتصادي الذي تنمو فيه المواهب والقدرات البشرية، وتزدهر فيه العلوم، وما ينتجعنها من الصناعات والخدمات وكل أسباب التمدن والرفاه العام الذي تصل فوائده إلى كلالمواطنين.
إن عبد الرحمن ابن خلدون قدحدد معالم ظاهرة دولة العصبية نشوءا وتطورا وسقوطا، وكانت أفكاره وتحليلاته مناسبةللفترات التاريخية التي عكف على بحثها ودراستها. لكن السؤال الذي يبحث عن إجابةعصرية هو: لماذا وبعد ستة قرون من نهاية عصر ابن خلدون وبعد كل التطورات العلميةوالاجتماعية والسياسية الكونية، ظل العقل العربي عاجزا عن معالجة (أزمة الحكم).
يبدو أننا في حاجة إلى عقلعبقري جديد يفسر لنا واقع الدولة العربية الحالية المخجل، ونحن في القرن الواحدوالعشرين، لا القرن الرابع عشر الذي عاش فيه ابن خلدون.
ابن خلدون رائد فن الترجمة الذاتية :كذلك فإنابن خلدون يعد رائدًا لفن الترجمة الذاتية ـ الأوتوبيوجرافيا ـ ويعد كتابه التعريفبابن خلدون ورحلته غربًا وشرقً ـ من المصادر الأولى لهذا الفن، وبرغم أنه قد سبقتهعدة محاولات لفن الترجمة الذاتية مثل ابن حجر العسقلاني في كتابه رفع الإصر عنقضاة مصر ولسان الدين بن الخطيب في كتابه الإحاطة في أخبار غرناطة، وياقوت فيكتابه معجم الأدباء. فإنه تميز بأنه أول من كتب عن نفسه ترجمة مستفيضة فيها كثيرمن تفاصيل حياته وطفولته وشبابه إلى ما قبيل وفاته.بنخلدون شاعرًا :نظم ابنخلدون الشعر في صباه وشبابه وظل ينظمه حتى جاوز الخمسين من عمره، فتفرغ للعلموالتصنيف، ولم ينظم الشعر بعد ذلك إلا نادرًا.
ويتفاوت شعر ابن خلدون في الجودة، فمنه ما يتميز بالعذوبة والجودة ودقة الألفاظوسمو المعاني، مما يضعه في مصاف كبار الشعراء، وهو القليل من شعره، ومنه ما يعد منقبيل النظم المجرد من روح الشعر، ومنه ما يعد وسطًا بين كلا المذهبين، وهو الغالبعلى شعره.
وبعد، فلقد كان ابن خلدون مثالا للعالم المجتهد والباحث المتقن، والرائد المجدد فيالعديد من العلوم والفنون، وترك بصمات واضحة لا على حضارة وتاريخ الإسلام فحسب،وإنما على الحضارة الإنسانية عامة، وما تزال مصنفاته وأفكاره نبراسًاللباحثين والدارسين على مدى الأيام والعصور.الفصلبين الدين والدولة:وبدوره يتساءل الدكتوركمال عمران أستاذ الحضارة العربية الإسلامية بالجامعةالتونسية: إلى أي مدى استوعبت النخبة من المصلحين في البلادالعربية عامة وفي تونس خاصة الفكر الخلدوني في أعماقه وأبعاده؟ ويلْحق الباحث التونسي هذا السؤال بسؤال آخر: هلوظف المصلحون في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الفكرالخلدوني في سياق يخدم فعلا الإصلاح في ظرف مختلف؟ وعودة إلى ما اسماه الباحث بالسنة الثقافية يذكرأن ابن خلدون نجح في أن يكسر نسق سنة الغزالي رغم انتشارها ونسقسنة ابن رشد رغم أهميّتها ليؤصل سُنةجديدة ترفض طريقة الفلاسفة المتعالية وترغب عن طريقة الفقهاء التي آلتإلى الهروب من الواقع إلى النصوص التي أضحت كالمقدس لا محيد عن الخضوع له،واختارابن خلدون بمقابل ذلك السلوك إلى البعد الإنساني العميق، إلا أن تأثيرالمصلحين،وقد اختار منهما الباحث ابن أبي الضياف ومحمد السنوسي نموذجين، قد جاءمحدودا،بل أن فهم المصلحين لآراء ابن خلدون، كما يضيف الدكتور كمال عمران، قد افسدعليهمالإصلاح لأنهم قصروا في استيعاب منطق المقدمة ثم علّلوا وبرّروا ودعموا بابنخلدونفي غير ما إطار مرجعي ملائم، بل أن الدكتور عمران يذهب إلى أكثر من ذلك حينيقولإن هذين المصلحين قد انزاحا بالمنظومة العقلية الخلدونية إلى منظومة فقهيّةوإنالتعامل النقدي مع ابن خلدون لم يبدأ مع المصلحين وإنما مع جيل الشباب بعد فترةالاستعمارالفرنسي لتونس بمدة طويلة. على أن الأمر لم يكنكذلك بالنسبة لعلي عبد الرازق صاحب كتاب"الإسلام وأصول الحكم" الذي استفاد حسب الدكتور صالح مصباح أستاذ الفلسفةبكليةالعلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس من ذلك الفصل المنهجي الذي أقامه ابنخلدونبين العلوم الدينية والمدنية، ومن التمييز بين الخلافة والملك . وقد اعتبرالباحث التونسي كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبدالرازق تتويجا للموجة الأولى من الحداثة السياسية العربية، وهي حقبة، حسبقوله،تقع في ذات نسق اندراجنا في السياق العالمي، لأنها لا تمثل حركة إصلاح مقايسةبالإصلاحالديني الغربي وإنما هي حداثة ليبرالية اندرجنا فيها مع العثمانيين قبلحملةنابليون، ثم اندرجنا فيها قَسْرًا بعد مجيئه. ولا ينفصل كتاب علي عبد الرازقعنقيم الحداثة الليبرالية الاقتصادية والاجتماعية (الطهطاوي) وتنظيمات دولةالقانونوالمؤسسات (خير الدين التونسي) وقيم الحرية (لطفي السيد)، إلا أن ما يميزعليعبد الرازق، حسب الدكتور مصباح، هو توجهه إلى المعضلة الأساسية المتمثلة فيالعلاقةبين الديّن والدولة، وتخصيصه خمسة عشر سطرا من كتاب يقع في سبعين صفحةللحديثعن رأي ابن خلدون في هذه المسألة. إلاّ أن الباحثين الذين كتبوا عن الإسلاموأصولالحكم، لم يتفطنوا إلى صلته بابن خلدون، حيث ذكر الباحث أنّ علي عبد الرازقلميستفد فقط من آليات الفحص الخلدوني أي المنهج التاريخي النقدي بل أنه سعى إلىنوعمن المعارضة لبنية المقدمة، بل أن المحاورة مع ابن خلدون، وبالذات مع المقدمة،مكّنتمن الانبناء النظري لكتاب عبد الرازق، وهذه المحاورة لا تقع فقط عند نظريةالخلافة،الواقعة في الباب الثالث من المقدمة حيث يأخذ منها علي عبد الرازق بعضالموادالتاريخية التي يحتج بها، بل أنه يمارس خططا تأويلية تسمح له بتجاوز الشواهدالحجاجيةوالعقدية التي لا تتماشى مع نظره إلى هذه المسألة، ولذلك يعارضها معارضةجذريةمستخدما التاريخ السياسي الخلدوني للانتقال من الخلافة إلى الملك ويعتبر أنالخلافةكانت دائما ملكا حيث أن ما قاله ابن خلدون عن أبي بكر وحروب الردّة يؤكد أنأبابكر كان ملكا. إلا أنها كانت فترة ذهبية استثنائية، كما كانت السياسة النبويةسياسةاستثنائية، والاستثناء لا يمكن الانطلاق منه لدراسة الظواهر والربط بينها،وهوما يؤكد ضرورة الفصل بين الخلافة والإسلام أي أن الإسلام لا علاقة له بالخلافةوبالتاريخيةوهو ما يهيئ للأطروحة العملية أي الفصل بين الدين والدولة لدى علي عبدالرازقوالتي أثارت عليه رجال الدّين في عصره. وهكذا يكون علي عبد الرازق قد استعملابنخلدون ايبستمولوجيا ونحا منحاه من ناحية النقد التاريخي و إن كان صاحب"الإسلام وأصول الحكم" أكثرجذرية في استخراج النتائج. ابن خلدون والمنهج العقلاني:??منعناصر الموضوعية في تفكير ابن خلدون ،اعتماده العقل وابتعاده عن الخرافات والأساطير،يقول: " لأن الأخبار إذا اعتد فيها مجرد النقل، ولم تحكم أصول العادة وقواعدالسياسة وطبيعة العمرانوالأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضربالذاهب ،فرّبما لم يؤمن فيها من العثور، وزلة القدم و الحيدعن جادة الصدق (2 .( ??كمانراه يعبر عن حركة التاريخ لأن العناصر المكونة للحياة الاجتماعية عنده ليست ساكنة بلهي في حركة دائمة يقول فيالمقدمة جـ1 ص 44 :الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل العصورومرور الأيامومن الغلط الخفي في التاريخ " وهو داء دوي وشديد الخفاء إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولةفلايكاد يتفطّن له إلاّ الآحاد من أهل الخليقة ... وذلك لأن أحوال العالم لا تدوم علىوتيرة واحدة ومنهاج مستقر، وإنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلىحال " (3) ??وقد كان ابن خلدون أحد هؤلاء القلائل الذي أشاروا إلىهذه الحركة للتاريخ في وقت مبك. ??النزعة العلمية عند ابن خلدون: ??نلمحأسس الجدلية عند ابن خلدون حين يتحدث عن أعمار الدول فيرى أن عمر الدولة يشبه عمر الشخصفهو ينتقل من سنّ التزيدإلى سن الرجوع وهذه الحوادث طبيعية ولا شيء يمكنه منعها. ??وحين يُبين أثر وسائل الإنتاج في النواحي الإنسانيةفي الأفراد يقول: " إن خلق الإنسان يرجع إلى العُرف والعادات لا إلى المناخ والمزاجوأن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم في المعاش 4 . ??في هذا النصّ نرى أن تكوين الإنسانالاجتماعي لا يخلقمعه بل تكوَّنه العادات الاجتماعية والعُرف القائم .. كما يقرر أن اختلاف أحوال الناسيعود إلى طريقتهم في الإنتاج.??وبذلكسبق ابن خلدون غيره حين ربطبين علم الاجتماع والاقتصاد في كتابه ( المبتدأ والخبر ) أثناء الحديث عنعلم الاجتماعالذي سمَّاه بـ ( علم العمران ) معتمداً أسس الشرح والتحليل وتعليل الحوادث مدركاًارتباط علم الاجتماع بعلم الاقتصاد وذلك في القرن الرابع عشر في الوقت الذي أشارفيه بعض العلماء إلى هذه الحقيقة في القرن الثامن عشر، وقد أقام ابن خلدون فيمقدمته وزناً للضرورة الاقتصادية حين عبر عنها بأن المكسب والمعاش والصنائع دعامة مندعائم المجتمع، وحين عبر أن الظواهر الاجتماعية في العالم لا تسير حسب الأهواء والمصادفات ولا وفق إرادة الأفراد، بلوفق قوانين مطردة ثابتة لاتقل في ثباتها عن قوانين الظواهر الأخرى ... وانطلق يدرس هذه الظواهر فيحال ثباتهاأي في الحالة التي تكون عليها في زمان ومكان معينين ويدرسها في الوقت نفسهمن حيث تطورها،والنواميس التي تخضع لها في هذا التطور واستخدم في أبحاثه القواعد التالية: الملاحظة والتجربة ،التفسير والتحليل ،المقارنة والقياس - ودراسة الظواهر وعلم العمران ولقد استخدم ابن خلدون علم العمران بمعنى علمالاجتماع قال: " إن الكلام في هذا العلم مستحدث الصنّعة غزير الفائدة أعثر عليه البحثوأدى إليه الغوص (5) .. ولعمريلم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة ولعل من يأتي بعدنا يغوص في مسائله أكثروالمتأخرون يلحقون المسائل من بعده شيئاً فشيئاً إلى أن يكمل ... (6) ??ابن خلدون .. والتقدم : ??وبقدرحاجتنا إلى التقدم .. لما في كتاباته من دفاع مجيد عن التقدم والحرية لأن الظلم عنده.." مؤذن بانقطاع النوع وهذا يؤدي إلى تخريب العمران " (7) ??كذلكحارب ابن خلدون العرقية التي تفرّق فتجعل الشرق شرقاً بفكره وحضارته، يتجدد اهتمامنابابن خلدون بقدرحاجتنا إلى الحرية بمعناها الاجتماعي الواسع، وتجعل الغرب غرباً بفكرهوحضارته أيضاًوذلك حين يكتب أن الإنسان يتغير بتغير الظروف حوله وليس هناك تخلف دائم أوتقدم دائم،وإذا تبدلت الأحوال جملة، فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحوَّل العالم بأسره وكأنه خلق جديدونشأة مستأنفة وعالم محدث.. ??وحين تحدث عن الاضطهاد نفى أن يكون نتيجة لطبيعة ثابتة في البشر وإنما الظروف الاجتماعية هيالتي تؤدي إليه تراه يقول:" إن الإنسان أقرب إلى خلال الخير من خلال الشرّ بأصل فطرته وقوته الناطقةالعاقلة. ??وفيرأيه أن الظلم نتيجة استبداد أهل القدرة والسلطان والجهل غير بعيد عن الظلم عند ابن خلدون، لأن مرمى الجهل بين الأنام وبيل،والحق لا يُقاوم سلطانه، والباطل يقذف بشهاب النظر شيطانه وقدأعجب ابن خلدون بالتاريخ لأنه علم من العلوم وليس من أهدافه أن يهز المشاعر أو يسحرالألباب أو يعظ أو يقنعالحكومات أو يخدمها .. ولم يكن التاريخ عنده لوناً أدبياً كما يقول ( أيفلاكوست ) لذلكالتزم الصراحة في أحكامه والإعراض عن قبول توسلات الأعيان وكبار رجال البلاط الذين كانوا قريبينمنه، ومن المؤكد أنه فعل ذلك شغفاً بالعدالة لا رغبةً في التظاهر بالطرافة كما يعبّر الدكتور طه حسين في ص (18)من كتابه ( فلسفة ابن خلدونالاجتماعية . ??إن إعجابه بالتاريخ كعلم جعله واقعياً بعيداً عن الأسلوب الرومانسي أي أن عواطفه لمتتحكم بكتاباته، ولم يشغله أن يكون أديباً مُنشئاَ بقدر ما كان يشغله أن يكتب ليثبتوقائع . ??ابنخلدون والاقتصاد: ??تحدث ابن خلدون عن الزراعة وقد سماها ( الفلاحة ) واعتبرها مهنة المعذبين حين قال: " الفلاحة من معاشالمستضعفين.." ولعله لمس الظلم الاجتماعي الواقع علىالفلاحين حيث لم يجد فلاحاً واحداً من المترفينأو من أهل الحضر .. ??وتحدثكذلك عن التجارة وعرّفها بأنها (محاولة الكسب بتنمية المال بشراءالسلع بالرخص وبيعها بالغلاء....) كما أشار إلى الاحتكاروالاستغلال حين قال: " إن البعض يختزن السلعة ويتحيّن بها حوالة السوق من الرخص إلى الغلاء فيعظم ربحه ..." . ??كما تحدث ببصيرته النافذةعن تراكمرأس المال وإن كان الربح قليلاً لأن المال كما يقول ابنخلدون " إن كان كثيراً عظمالربح لأن القليل فيالكثير كثيرٌ ..." وعن علاقة المال بالسلطة أشار إلى أنّه لابد للمال من جاهٍ يتذرّع به فيوقع له الهيبة عند الباعة ويحمل الحكام علىإنصافه منغرمائه . ??وعن قانون العرض والطلب يقول: " إن التاجر البصير لا ينقل من السلّع إلا ما تعّم الحاجة إليه ... " . ??ويتحدث عن الغلاء قائلاً: " إذا قلّت السلعة أو عزّت غلت أثمانها وإذا كثرت رخصت أثمانها .." . ??وحينيتحدث عن الصناعة يرى " أنها ملكة في أمر علمي فكريولأنها عملية فهي محسوسة، ونقلها بالعمل أوجب لها وأكمل، لأن المباشرةكما يقول ابن خلدون أو الخبرة العملية كما نقول اليوم في الصناعة أتم فائدة " ... وقد عـرّف الصناعة بأنها ملكة، ويقول عن الملكة أنهاصنعة راسخة تحصل عن استعمال ذلك الفعل وتكراره مرّةبعد مرّة حتى ترسخ صورته.."، نلمح إيمانه بأهمية الصناعةكما نلمح أهمية فضل التعليم الفني في الصناعة كذلك، كما يوضح لنا أن تقدم الصناعة يكون بتكرار العمل فيها ويرى كذلك أن الصناعة ترسخ في البلد برسوخالحضارةفيه، وطول أمدها، وتحول الصناعة إلى عادة ترسخ بكثرةالتكرار كما يقرر أن الاستقرار ضمان لتقدم الصناعة، وأنالبلدان إذا قاربت الخراب انتقصت فيها البضائع وتكبر أهمية الصناعةبقدر أهمية السلعة التي تنتجها .... ??ابن خلدون ضدالعنصرية: ??فندّ ابن خلدون بأسلوبه العلمي الخرافاتحول سواد اللون عند بعض الناس، محاربا من خلال ذلك العنصرية التي تقوم على أساس اللون حين يقول: " توهم بعض النسابين إن السودان (جمع أسود) همولد حام بن نوح اختصوا بلون السواد لدعوة كانت عليهمن أبيه ظهر أثرها في لونه وجعل الله الرق في عقبه.. وينقلون في ذلك حكاية من خرافات القصاص ..." . ??إنهذه الخرافات يقول ابن خلدون وردت في " التوراة "حيث جاء فيها .." إن دعاء نوح على ابنه حام بأن يكون ولده عبيداً لولد إخوته لا غير " ولم تذكر التوراة لون السواد . ??دحض هذه الخرافات بأسلوبه العلمي الذيقام على التجربة والملاحظة والاستقراء، يقول: " إن القول بنسبة السواد إلىحام غفلة عن طبيعة الحر والبرد، وأثرهما في الهواء وفيما يتكون فيه من الحيوان ..." ... جاء كلامه هذا في معرض حديثه في مقدمته عن أثر البيئة والمناخ في السكانوتوزعهمونمط حياتهم جاء في بعض ما قال : " اعلم أنه يتبينفي كتب الحكماء الناظرين في أحوال العالم، أن شكل الأرضكروي، وأنها محفوفة بعنصر الماء كأنها طافية عليه، فانحسر الماءعن بعض جوانبها لما أراد الله تكوين الحيوانات ،وعمرانها بالنوع البشري الذي له الخلافة على سائرها، ثم إن هذا المُنكشف من الأرض فيه القفار والخلاءأكثر منعمرانه، والخالي من جهة الجنوب أكثر من جهة الشمال . ?? وكان " الجاحظ " قد أشار إلى أثر البيئةفي الكائنات التي تعيش فيها منذ القرن الثالث الهجري - قبل ابن خلدون بحوالي خمسة قرون في كتابه الشهير " الحيوان " - فعلى سبيل المثال نراهيقول:?? وقد نرى ( حرّة بني سليم) ومااشتملت عليه من إنسان وسبع وبهيمة وطائر وحشرة كلهاسوداء، ونرى جراد البقول والرياحين خضراً وديدانها خضراً ..." ?? قيمة العمل " تحدث عنها ابن خلدون فيوقت مبكر وانتقد بشكل واضح تسخير الإنسان لأن " العمل مصدر معاشه الوحيد "، يقول: " ومن أشد الظلمات وأعظمها في إفساد العمران تسخير الرعايابغير حق..." ??ويوضح هذه القضية - اغتصاب العمل والاستغلال - أكثر حين يقول: " فإذا كلفّوا العمل في غير شأنهمواتخذوا سخرياً في معاشهم، بطل كسبهم واغتصبوا قيمةأعمالهم، فدخل عليهم الضرر " ،لأن العمل - كما يرى ابنخلدون بحق - هو مصدر رزق الإنسان وتغّيره، يقول " وأعمالهم كلّها متحولاّت ومكاسب لهم بل لا مكاسب لهم سواها " . ??اكتشفالغرب ابن خلدون بدهشة وإعجاب لأنه سبق كل المنظرينالسياسيين الغربيين ،سبق ميكافيلي، وميكو، ومونتسكيو، وسميث،وأوغست كنت بعدة قرون. ??ومن الدراسات الهامة في هذا المجال دراسة المستشرق الإيطالي " استيفانو كلوزيو " المقارنة التيكتبها أواخر القرن التاسع عشر، قارن فيها بين شخصين: ابنخلدون - وميكافيلي ،تحت عنوان: " مقدمة لدراسةابن خلدون " تحدث فيها عن أوجه الشبه والاختلاف بين الفيلسوفين ،ووصل إلى اعتبار ابن خلدون رائد علم جديد هو " علم النقد التاريخي " الذيسبق فيه بقرون عديدة أشهر فلاسفة الأوربيين، الذينشغلهم التاريخ ونقده والسياسة وعلومها . ??ويرى هذا المستشرق أن ابن خلدون تحدث في قضايا كثيرة سبق بها الغربيين مثل حديثه عن مذهب الجبر الاجتماعيوحديثه عن" وظيفة الدولة ومفاسدها " والسلطاتالسياسية وطبقات الاجتماع وكذلك وجد عند ابن خلدوننظرية في "الملاكة وتقسيم الأموال " كما سبق الغربيين في حديثه عنالمبدأالجديد، " لكل بقدر حاجته " ويخلص هذاالمستشرق إلى أن آراء ابن خلدون في كيان الجماعاتالإنسانية في كيانها المركب - تجعله في أسمى مراتب الفلاسفة المؤرخين وأن ما يعزوه من شأن كبير إلى العمل والملاكة والأجرة يجعله سلفاً وإماماًلاقتصادّيي هذا العصر . ??ظهرت دراسةالمستشرق الايطالي( مقدمة لدراسة ابن خلدون ) في اللغة العربية في / 5(مايو) أيار عام 1925 / على صفحات أسبوعية ( الميزان ) الثقافيةالتي أسسها في دمشق الناقد المترجم الفلسطيني " أحمد شاكر الكرمي" الأخ الأكبر للشاعر عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى ) و الابن البكر للشيخ سعيد الكرمي رئيس المجمع العلمي في دمشق . ??ترجم الدراسةالأديب والكاتب "عمر فاخوري " .............لتكون فيمتناول القارئ العربي والباحث المتتبع للفكرالخلدوني(9) . ??ابن خلدون : معالم حياة:??امتدت حياته الفاعلة لأكثر من خمسين عاماً ،إذ دخل معترك الحياة قبل العشرين،وقام بمهمة سياسية خطيرة عندالسبعين.... ??أربعة أعوام امتدت من 1375- 1378، اعتزل فيها الحياة العامة وانزوى في " قلعة ابن سلامة " ليبدعأثره الخالد - المقدمة التي ضمنت له الخلود بين أعظم رجال الفكر في العالم، كتب مقدمتههذه عام1377 بعد أن وصل منتصف العقد الخامس من عمره ..وقد شاهد وعاش تجارب كانت من العوامل التي وجهته ليكتبهذه المقدمة . ??بعد أن كتب كتابه الخالد- المقدمةفي التاريخ، رحل إلى مصر وبقي فيها إلى آخر حياته ... ??تولى سفارة مصر إلى سورية - دمشق - وحصل اللقاء الشهير بينالفيلسوف العربي، والفاتح المغولي تيمورلنك عام 1401م . ??لم ينحصر نشاط هذاالعلاّمة في ( تونس ) مسقط رأسه ومصر مثوى رفاته،بل شمل معظم أقطار الوطن العربي ذهب إلىالحجازلأداء فريضة الحج، وزار المقدسات في القدس العربيةواشترك في الدّفاع عن دمشق عندما غزاها " تيمورلنك" عام 1401م. ??ولعل هذا ما دعا " فيليب حتّى " إلى القول في كتابه " مختصر تاريخ العرب ": لقد كان ابن خلدون أكبرفيلسوف ومؤرخ أخرجه الإسلام كما كان أحد أعاظم الفلاسفةوالمؤرخين في كل العصور " .. ??تميز ابن خلدون بأسلوبه العلمي، لم يكتبكأديب وإنما كتب ليثبت وقائع أو معلومات أو فشاهدات .. إضافة إلى أن كتاباته في موضوع لم يسبق إليه،فرضت عليه أن يوجد كلمات جديدة وأن يستعمل كلماتٍفي معانٍليست معروفة أو متداولة وعلمية الأسلوب والاتجاه لم تمنعابن خلدون من الإشارة يقدمها على شكل نصيحة حول أهم الكتبفي التراث العربي حين يقول: " .... سمعنا من شيوخنافي مجالس التعليم أن أصول فنّ الأدب وأركانه أربعة دواوين هي: أدب الكاتب لابن قتيبة ،وكتاب " الكامل " للمبرد، وكتاب " البيانوالتبين " للجاحظ، وكتاب " النوادر " لأبي عليالقالي وما سوى هذه الأربعة، فتبع لها وفروع عنها " المقدمة ص 353، طبعة بيروت . ??هذا قليلٌ مما قدمه ابن خلدون للحضارة الإنسانية وقد اعترف بفضله هذا كثيرون يقول (إيف لاكوست)، إن ابن خلدون لووضع معمعاصره (فروسار) في كفتي ميزان لشالت كفة الأخير ولجاءتالموازنة في غير صالح الفكر الغربي على كل حال . ??وقال (جان مارسيه): " إن مقدمة ابن خلدون هي أحد المؤلفات الأكثر ضرورة والأكثر إثارة من بين المؤلفات التيقيّض للعقل البشري إنتاجها ". ??وقال (توينبي) في كتابه (دراسة التاريخ):إن فلسفة التاريخ التي تخيلّها (ابن خلدون) ثم بسطها في كتبه بدون شك أعظم إنتاج أبدعه أي ذهن في أي عصر وفي أي زمن .." ??هذا بعض ما قدمه ابن خلدون الذي أثار بمقدمته الشهيرة اهتمام عدد كبير من العلماء والمفكرين العرب والأجانب،والذي عاشفي القرن الرابع عشر الميلادي قرن التحول والانتقال إذاعاش من عام 1332 إلى عام -1406م. ??وإذا وصلنا إلى مرحلة تؤهلنا لاستيعابهذا المؤرخ الفيلسوف العظيم فسوف نجد في مقدمته الكثير من القضايا التي تشغلنا في وقتنا هذا، وتعمل على تحرير العقول وإيقاظ بذور الإبداع. ??حالة استثنائية:أوضح الباحث التونسي مصطفى خياطي أن علماء الاستعمار اكتشفوا أعمالابن خلدون قبل أكثر من مئة عام لكنهم لم يعترفوا بالثقافة العربية التي أنتجتهونظروا إليه باعتباره حالة استثنائية "وكأنه نتاج نفسه"، علي الرغم منذلك قدم المثقفين الفرنسيين ابن خلدون باعتباره عبقرية لا مكان لها في سياق الفكرالعربي الإسلامي.
وأشار الخياطي إلى أن عميد الأدب العربي طه حسين في رسالة الدكتوراة التي أشرفعليها عالم الاجتماع إميل دور كايم عام 1917 لم يعتمد النص العربي لمقدمة ابنخلدون موضوع دراسته وإنما اعتمد الترجمة الفرنسية "وكانت تحليلاته بها الكثيرمن الخطأ والخلط والاستعلاء ونال من ابن خلدون وأنكر عليه أنه ابتدع علمالاجتماع"
ولكن محمد صابر عرب رئيس دار الكتب المصرية رجح أنه لو عاش طه حسين حتى نهاياتالقرن العشرين لبادر إلى تعديل كثير من أحكامه على ابن خلدون (1332 - 1406) خاصةفيما يتصل بالعلاقة بين العلوم الاجتماعية حيث "أخذ طه حسين على ابن خلدونأنه يدرس المجتمع ليشرح التاريخ بينما علم الاجتماع لكي يكون علما يجب أن يكونمستقلا"
وأشار في افتتاح الندوة التي تقام بالتعاون مع مركز سيداج الفرنسي بالقاهرة إلى أنابن خلدون حظي باحترام الغرب منذ فترة مبكرة ويكفيه "شرفا أن كل التخصصاتتتنازع فكره.
وكانت الظاهرة الخلدونية في مجملها بمثابة ومضة ضوء في زمن كانت فيه الحضارةالعربية في طريقها إلى التراجع". نظريات مقتبسة:ولد ابن خلدون في تونس واستقر في مصر 22 عاما إلى أن توفي ودفنبالقاهرة ومنذ عشر سنوات اشتعلت حرب كلامية بين مثقفين عرب حول كتابه (المقدمة)حين قال محمود إسماعيل أستاذ التاريخ بجامعة عين شمس إن مؤلفها اطلع على رسائلإخوان الصفا واقتبس منها نظريته في علم الاجتماع.
واعترض كثير من الباحثين العرب ومعظمهم من المغاربة على ما توصل إليه إسماعيل الذيرأى أن غضب المغاربة ينطلق من اعتبارهم ابن خلدون يخصهم وحدهم.
ويرى باحثون عرب أن الاهتمام العربي بابن خلدون تأخر كثيرا كما أن بعض أعماله لاتحظى بما تستحقه من اهتمام الدارسين وليس لها شهرة مثل كتابه (العبر وديوانالمبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر)الذي كانت (المقدمة) جزءا منه.
وأشاد خياطي بأول "مهرجان رسمي" عربي عن ابن خلدون في القاهرة عام1962واصفا إياه بأنه إعادة الاعتبار للفكر الخلدوني وقراءته عربيا بعيدا عن القراءاتالغربية التي قال إن الطابع الاستعماري غلب عليها.
كما أوضح قاسم عبده قاسم أستاذ تاريخ العصور الوسطي أن الهدف ليس إخراج ابن خلدون"من صمته لنواجه به العالم وإنما تغيير أنفسنا (العرب) في لحظة تاريخية تشبهالسياق الذي عاش فيه ابن خلدون"
وعلق عبادة كحيلة أستاذ التاريخ الحديث بجامعة القاهرة مفترضا أن ابن خلدون لو عادإلى زماننا فلن يقول جديدا بل سيشير إلى ما سجله من قبل مثل اشتغال القادةالسياسيين بالتجارة إلى جانب عملهم الأصلي في مراحل تدهور الدولة "وهذا ممنوعفي الدول الديمقراطية لكنه موجود في مصر"
وأضاف أن كلام ابن خلدون لا يزال صالحا لعصرنا خاصة ما يتعلق منه بإصرار الأثرياءعلى أن تكون لهم مناصب رسمية تعفيهم من المساءلة مثل لجوء بعض من أسماهم رجالالمال لعضوية البرلمان إضافة إلى تحالف الفساد والاستبداد حينما قال "حلفالمال والسلطة يجعل رجال المال يهربون عندما يشعرون بقرب انهيار (نظام الحكم في)الدولة"أهم مؤلفات ابن خلدون :كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومنعاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، الذي قدم له بمقدمة شهيرة طغت شهرتها على الكتابنفسه. و له أيضا شرح البردة و هي كتاب في مدح الرسول، و كتاب لباب المحصل في أصولالدين ، وهو تلخيص كتاب الفخر الرازي في علم التوحيد. وكتاب في الحساب، ورسالة فيالمنطق.و في الأخير نذكر المراجع التي اهتدينا بها:(1): عبد الرحمن ابن خلدون ، التعريفبابن خلدون ورحلته غربا وشرقا ، بيروت ، دار الكتاب اللبناني . القاهرة ، دارالكتاب المصري ، 1979 م، ص ، ص : 3 / 4 .(2): المصدر نفسه ، ص ، ص : 9 / 10 .(3) : المصـدر نفســه ، ص ، ص : 17 ، 18 ، 19 .(4) : ابن خلدون ، المقـدمــة ، بيروت ، دار الرائـد العربي ،الطبعة الخامسة ، 1402 هـ ، 1982 م ، ص ، ص : 32 / 33 .(5) : ابن خلدون ، التعـريف ، ص ، ص : 60 / 61 .(6) :المصـدر نفسه ، ص : 266 .(7) : المصـدر نفسه ، الصفحة نفسها .(8) : المصـدر نفسه ، ص ، ص : 266 / 267 .(9) : محمد فريد حشيش ، ابن خلدون بين العلم والسياسة ، أعمالالملتقى الدولي الثاني عن ابن خلدون ، الجزائر ، 1986 م ، ص : 123 . (10) : ساطع الحصري ، دراسات عن مقدمة ابن خلدون ، القاهرة ،بيروت ، مكتبة الخانجي ودار الكتاب العربي ، الطبعة الثالثة موسعة ، 1387 هـ ، 1967 م ، ص : 62 . (11) : أحمد بوشرب ، أزمات القرن 14 ودورها في تغيير ميزان القوى لصالحالدول المسيحية المشرفة على الحوض الغربي للأبيض المتوسط ، أعمال الملتقىالدولي الثاني عن ابن خلدون ، الجزائر ، المركز الوطني للدراسات التاريخية ، 1986 م ، ص ص : 224 / 225الخا تمة:لقد نجح ابن خلدون "التونسي، العربي، ذي الأصولالحضريّة ثم الأندلسية"، في أن يكون عابرا للتاريخوللثقافات، وان يظل حاضرا بيننا، نستدعيه إلى زمننا نحاورهونسائله ونسأله علاجا لأدواء لحظتنا التاريخية، ويستدعيناإلى عصرهلنقف على أصالة تفكيره، وقدرته على النقد والتمحيص، والتجاوز المعرفي السائد في عصره وموروثاته، ولكي نقاسمه القلق وأزمة الوعي وهويقف شاهدا على نهاية إحدى أكبر الحضاراتالإنسانية، الحضارة العربية، الإسلامية، فلا يجد من يلبي نداءه بان يوقف لحظة الانهيار والخراب الزاحفين. ولأن لابن خلدون هذا الحضور الهائل فيالفكر العربي والإنساني عامة، حيث أحصىناقد برتغالي أكثر من 61 ألف بحث عن ابن خلدون متوفر علىمحرك غولفقط، ولأن ابن خلدون يعد إحدى أهم مرجعيات الفكر التونسي وخاصة فكر رواد الإصلاح في القرن التاسع عشر، الذين مازالوا يلهمون اليومالنخب السياسية والفكرية التونسية، فقد خصصت تونسعام 2006 سنة للاحتفال بالمئوية السادسة لوفاة صاحبالمقدمة، حيثنشطت الفضاءات الجامعية والأكاديمية لتكريم مفكر قال عنه توينبي إنه "قد تصوّر وصاغ فلسفة، هي بلا شك، أعظم نتاج أبدعه أي ذهن، فيأيّ عصر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق