العرب في العصر الجاهلي
تاريخ العرب في العصر الجاهلي
مقتبس من كتاب (العرب في العصر الجاهلي) لمؤلفه ديزيرة سقال
بقلم د. رضا العطار
سنتحدث اليوم عن تاريخ العرب قبل الأسلام وهو جملة مواضيع طويلة ومتشعبة لا يسمح الوقت المحدد للتطرق اليها بشكل موسع , ومن يرغب بالأطلاع على التفاصيل يستطيع ان يستعين بالمراجع الأصلية في دائرة المعارف الأسلامية وكتب الرحلات ليجد ما يريد , وسأحاول ان اقسم الموضوع الى ثلاثة اقسام :
القسم الأول عن موطن العرب والهجرات التي حدثت على امتداد التاريخ .
القسم الثاني المناطق التي استقر فيها العرب بعد الهجرات .
القسم الثالث العرب واصل التسمية ودورها في توحيد الأمة العربية وابراز الجانب القومي فيها .
لقد اجمع اكثر المؤرخين ان صلة العرب بالساميين قد عرف من الروايات التي جائت في التوراة عن اصل العرب كونهم منحدريين من سلالة نوح والتي تؤكد انهم من شبه جزيرة العرب فهي موطنهم الأصلي رغم ان البعض يدعي انهم جاؤا من ارمينيا او من قارة افريقيا او من جزيرة سيلان وان الباحث فون كريمر اعتقد ان العرب بالأصل من بابل بدليل الجمل والزراعة الا ان العالم الباحث فولدكر يرفض هذا الأعتقاد ويقول ان بابل حضاري ليس له علاقة بالصحراء .
لقد حدثت الهجرات العربية القديمة في التاريخ بأتجاه الشمال بعدما تغير مناخ المنطقة في العصر الجليدي قبل اكثر من عشرة الاف سنه مما سبب الجفاف وحول معظم بلاد العرب الى مناطق صحراوية قاحلة (1)
المعروف ان اولى الهجرات التي نزح فيها العرب الى العراق القديم ومصر كانت 4000 سنه قبل الميلاد اما الهجرات الثانية كانت الى الهلال الخصيب والمغرب العربي حصلت حوالي 2500 ق م , ويبدو من خلال الدراسات التاريخية والأثرية المتعددة انه نتيجة لهذه الهجرات حصل استقرار البداوة في تلك المناطق وظهرت مدنيات نتيجة التمازج الحضاري بعد هذا التحرك السكاني , والظاهر ان العرب ظهروا اول مرة في مناطق نجد والعروض واليمن والحجاز . ويبدو ان ثمة صفات مشتركة تميز بها سكان هذه المناطق كاللغة المشتركة والعادات الأجتماعية وطرق المعيشة , هذا التشابه جعل الباحثين يعتقدون ان العرب منحدرون من اصل واحد سموه بالجنس السامي .
لكن المستشرق الفرنسي ارنست رينان يقول – ان العرب منحدرون من اصل واحد يشتركون في لغة واحدة وبتركيب عقليتهم ونظرتهم الجزئية للأشياء وتأثرهم بالغيبيات وميلهم الى البساطة في التفكير والوحدانية في الدين –
لكن المؤرخون العرب لم يأخذوا بهذا الرائ كونه استعماري النزعة .
اما المناطق التي استقر فيها العرب بعد هجرتهم فكانت البادية الشمالية . حيث نشأت مملكة تدمر والغساسنة اما في مرتفعاتها فظهرت مملكة الأنباط وفي الجنوب ظهرت ممالك اليمن والمعينين والسبئيين حوالي عام 1300 ق م (2)
لقد اختلط الأكديون اقدم القبائل المهاجرة الى العراق القديم بالسومريين وكونوا شعب بابل . الذي قدم للحضارة الأنسانية الكثير من ميراثها الثقافي , ثم هاجر اليه الأشوريون في الألف الثالث ق م ثم تبعهم العموريون حتى وصلوا مدينة تيماء عندها تفرقوا . فقسم واصل السير ودخل وادي الرافدين . واخرون عرجوا غربا ودخلوا وادي النيل وفي الألف الثاني ق م . ثم هاجر الأراميون واستقروا في الفرات الأوسط . لكن قسم منهم توقف وسط الطريق واستقر في سهل البقاع , اما الكنعانيون فقد استقر قسم منهم في فلسطين بعد الهجرة . والقسم الأخر سكن السواحل الشرقية للبحر المتوسط وسمو بالفنيقيين (3) .
ينقسم اصل العرب الى ثلاثة اقسام : العرب البائدة والعرب العاربة والعرب المستعربة لكن ابن خلدون يضيف في مقدمته العرب المستعجمة .
اما العرب البائدة فكانت تضم سبعة قبائل :
1- قبائل عاد الذين سكنوا اليمن زمن نبي الله هود الذي جاء ذكره في القرأن في سورة الفجر – الم ترى كيف فعل ربك بعاد ارم ذات العماد – .
2- ثمود سكنوا الحجاز زمن نبي الله صالح .
3- طسم سكنوا عمان .
4- ثقيف سكنوا الطائف .
5- جاسم سكنوا مكة .
6- وبار سكنوا اليمن .
7- جديس سكنوا اليمامة ... يعتقد ان هذه القبائل هم من ذرية سام ابن نوح وقد انقرضت وتاريخها مجهول والمتتبعات في شأنها متضاربة .
اما العرب العاربة فهم عرب الجنوب ويدعون بالقحطانيين نسبة الى يعرب بن قحطان ولغتهم لغة سامية قديمة جدا يعتقد انها تطورت الى اللغة العربية لاحقا (4) وقد ساعد الموقع الجغرافي لعرب الجنوب علىالأشتغال بالتجارة البحرية والبرية فكانت سفنهم تجوب بين بلاد السند ومصر وبابل (5) .
اما الزراعة عندهم فكانت رائجة لكثرة الأنهار والسدود . وكان سد مأرب اشهر السدود في اليمن (6)
اما ديانتهم فكانت وثنية وتمسكوا بالثالوث . القمر ورمزه الحية والشمس ورمزها اللات والزهرة ورمزها العزى . وكان البابليون يعبدون الشمس ويدعونها شاماس . كما عبدوا الهة الخصب ودعوها عشتار . وكانوا يقيمون لها احتفالات سنوية اسوة بأسلافهم السومريين . وان الهة بلدان الشرق الأوسط كانت متشابهة في الشكل مما يدل انها كانت مرتبطة بعلاقات تجارية مع بعضها (7)
لقد تسربت المبادئ المسيحية الى عرب الجنوب حتى غدت نجران عاصمتها . وعندما اشتدت المنافسة الدينية بين ممالكها , قام الملك ذو نواس بحملة عسكرية على المدينة بعدما رفض اهلها طلبه في اعتناق اليهودية فأحرقها عن بكرة ابيها . وهنا يشير القرأن الكريم الى هذا الحدث التاريخي – قتل اصحاب الأخدود النار ذات الوقود اذ هم عليها قعود – هذا ما جاء في سورة البروج . وكذالك في سورتي القصص والأحقاف نجد اصدق الشواهد واصح المصادر في التاريخ العربي قبل الأسلام , ففيها اخبار العرب البائدة كعاد وثمود وملوك اليمن واصحاب الفيل وابرهم الحبشي والسيل العرم الذي دمر سد مأرب وكان احد الأسباب في الهجرات العربية القديمة .
اما كتب الأحاديث والسير فقد نقلت لنا على امتداد قرنين من الزمن اخبارا تعتبر من المصادر الموثوقة عند العرب , ككتاب السير والمغازي ذات الصلة , واخبار جرهم ودفن بئر زمزم واخبار قصي ابن كلاب وسيرة ابن اسحاق وابن هشام والتي لايسع المجال لذكر تفاصيلها وان هناك كتبا اجنبية لسترابون اليوناني الزاخر باخبار العرب القديمة وكتب وهب ابن منية اليهودي الذي عاصر الأحداث التاريخية والتي تعرف بالأسرائيليات , كما ان هناك مصادر يغرق الباحث في بحورها كالرحلات الأستكشافية للرحالة نيبور عام 1760 واستيزن عام 1810 .
لقد انهارت تلك الممالك في اقل من مئة عام قبل ظهور الأسلام بفعل غزو الفرس لها عام 575 ميلادية (8)
كانت مملكة مجان في عمان – بضم العين - متحضرة نسبيا فقدعاصرت العهد السومري في العراق وتميزت بحركاتها التجارية فكانت صادراتها تشمل النحاس والذهب والأحجار الكريمة والبخور والرخام الصلب الذي كان يدخل في صناعة نحت التماثيل للألهة والملوك من قبل الفنانين العراقيين – 9 –
اما اخبار العرب المستعربة فكانوا يدعون بالعدنانيين وهم عرب الشمال وقد ورد ذكرهم في التورات بأسم الأسماعيلين ( 9 )
كان لأبراهيم الخليل اثنى عشر حفيدا من ولده اسماعيل , انحدرت منهم اربعة قبائل ظهروا خلال القرن التاسع عشر قبل الميلاد ويقال انه اول من تكلم اللغة العربية بعد ان نزل الى مكة (10)
لقد ظهرت هذه القبائل بداية في سهول تهامة ومنها انطلقوا الى الشام والحجاز ونجد كانت اشهرها قبيلة مضر التي استقرت في نجد بينما قبيلة تميم استقرت في بادية البصرة وقبيلة ربيعة انحدرت منها قبيلة بني اسد وقبيلة كنانة استقرت في الحجاز وانحدرت منها قبيلة قريش .
اما عن اصل كلمة العرب . يؤكد فريق من المستشرقيين ان لكلمة عرب صلة بكلمة عرابا العبرية التي تعني الفوضى اما كلمة عارب فتعني تحرك وان العرب استعملوا كلمة اعراب اقتباسا من القرأن الكريم .
ويقول المؤرخ نصر شمالي ان مصطلح العرب هو مرادف لتسمية عبيروالذي يعني الرحيل او المهاجر او العابر .
بينما يقول المؤرخ الشهير جواد علي في موسوعته ان كلمة عرب جائت من الأنابة والأفصاح عن الشئ كأن يقال للعربي اعرب لي اي بين لي كلامك ويقال اعرب الأعجمي اي افصح وابان , وكان نصارى الحيرة يسمون العرب الخلص بالمعربين لوضوح لسانهم , والعربية تعني تحريك اواخر الكلمة وان اقدم لفظة لكلمة عرب وردت في النصوص الأشورية عام 853 ق م منقوشة على الصخر استعملها الملك الأشوري شلمنصر الثالث (11)
ان اسم العرب لم يظهر بشكل واضح الا في القرن العاشر ق م حينما حددت هوية العرب بهدف التميزبين بلادهم وبين البلدان المجاورة كدولة الفرس والأشوريين والبابليين . , كما وردت لفظة العرب في الأسفار القديمة مثل سفر اشعيا في التوراة . وكان المقصود من اسم العرب معنى البدو لكن هيرودتس اطلق لفظة العرب على ساكني المناطق التي شملت الجزيرة العربية والصحراء الشرقية لمصر ومنطقة البحر الأحمر في القرن الخامس ق م .
اما الأراميون فقد اطلقوا اسم عربايه ومعناها ارض العرب على القبائل التي سكنت في بادية الشام وفي بادية السماوة في العراق ثم تلقفتها المصادر اليونانية والرومانية لتثبيت التسمية واصبح مصطلح العرب هو الغالب عندهم لكن مع ذالك لم يحسم الخلاف في لفظة العرب الا بعد ان جاء ذكرها في القرأن الكريم في سورة الزخرف – انا جعلناه قرأنا عربيا لعلكم تعقلون –
ومن هنا بدأ الشعوربالقومية العربية يظهر الى جانب العقيدة الأسلامية ويتبلور مع تقادم الزمن .
اما عن اصل اللغة العربية فأقول - الثابت تاريخيا ان اللغة العربية مشتقة اصلا من اللغات السامية القديمة وخط هذه اللغة هو الخط المسماري المأخوذ من السومريين (12)
ويمكن القول ان اللغة البابلية منحدرة من اللغة المسمارية وان بين لغة الأنباط والتدمريين والثموديين قرابة باللغة العربية وخواصها قريبة من لغة القرأن الكريم (13)
كان سكان شبه الجزيرة العربية يتكلمون قديما اللغات الأرامية والكنعانية والعبرية والحجازية والتدمرية لكن هذه اللغات اندثرت مع العرب البائدة واختفت في مجاهل التاريخ . وان اللغة السريانية منحدرة من الأرامية هذه اللغة التي كان السيد المسيح عليه السلام يخاطب تلامذته بها (14)
لقد قيل ان اللغة العربية في اصلها عبرانية لكن الخصائص اللغوية كجذور الأفعال وصيغ الماضي والحاضر المشتركة اظهرت الدليل على ان اللغة العربية اصيلة ومستقلة وانها جمعت الساميين مع بعضهم وان الأتشار الواسع والبيئات المتباينة التي نزحوا اليها سببت تنوع اللهجات .
فاللغة العربية شملت الفصحى ولهجات اخرى نطقت بها قبائل الجنوب وهي اللغة التي فازت بالبقاء في حين ان اخواتها زالت في عالم النسيان (15)
لقد نهضت اللغة العربية بعدما كانت منزوية حتى اوائل القرن السادس الميلادي وامتازت على العبرانية والأرامية في بعض الخصائص فهي اشمل منها في المعاني واوفر بالمعلومات واوفى بالغرض , هذا الغنى الجليل الذي جعل اللغة العربية الفصحى متميزة بروحها الوثابة حتى غدت رحيق الحضارة العربية الحديثة
ففي خلال القرن السابع الميلادي انطلقت شعاعات هذه اللغة مع بزوغ فجرالأسلام بأتجاه الأمصار النائية ناشرة لهجاتها المتعددة في البلدان الممتدة بين المحيط الهادي شرقا الى المحيط الأطلسي غربا .
في اعتقادي ان العرب المسلمون وهم في ذروة المجد لم تقم حضارتهم بمجرد فوزهم في الفتوحات الحربية انما بفضل الفيض الوافر لقدرات اللغة العربية التي كانت الباعث الحقيقي في بزوغ شمس الثقافات الى السطوع على بغداد زمن العباسيين وعلى القاهرة زمن الفاطميين وعلى قرطبة زمن الأندلسيين التي شهدت حضاراتها عصورا ذهبية تجلت في رقيها وازدهارها شملت جميع مرافق الحياة من عمرانية وعلمية وادبية وفنية والتي ساهمت بدورها في دفع عجلة تطور ثقافة الأنسان الى الأمام .
في منتصف القرن التاسع عشر عندما تمكن العلماء من معرفة الكتابة المسمارية وفك رموزها . استطاعوا ان يدرسوا اللغات الأكدية والبابلية والأشورية التي كتبت بهذا الخط . وقارنوها بالعربية والعبرية والأثيوبية . وتبين ان كل هذه اللغات تتلاقى في جذور الأفعال فالفعل مؤلف من ثلاثة احرف مثل فعل وضرب وكذالك في صيغ الصرف لا اختلاف في جوهرها (16) كما ان مخارج بعض الحروف كحرفي العين والحاء هي نفسها . بالأضافة الى تشابه الأسماء والضمائر والأعداد وعلى هذا الأساس استنتج الباحثون ان لغات هذه الأمم ترجع الى عنصر واحد اسموه بالعنصر السامي . كما اطلقوا على اللغات المتشابهة مصطلح اللغات السامية . المتفرعة اصلا من منبع واحد اسموه لغة الأم .
من الواضح ان لفظة الجاهلية تعني الطيش ولا تعني الجهل . وقد وردت هذه اللفظة على لسان الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم الذي عاش قبل الأسلام بمئة عام قوله
الا لا يجهلن احد علينا --- فنجهل فوق جهل الجاهلينا (17)
لكننا اذا فهمنا هذه اللفظة بالمعنى الديني . عرفنا ان معناها الحقيقي هو غير ما نتصور , فالعصر السابق لظهور الأسلام سمي بالجاهلية لأنه جهل هذا الدين مصداقا لما جاء في سورة البقرة
قالوا اتتخذنا هزوا قال اعوذ بالله ان اكون من الجاهليين (18)
اما بخصوص تحديد زمن الجاهلية . يمكن القول انه بدأ قبل التاريخ الميلادي بحقبة زمنية غير معلومة..
والباحثون قسموا العهد الجاهلي الى قسمين جاهلية بعيدة وفيها عاشت القبائل العربية البائدة . واخرى قريبة بدأ عهدها , قبل الأسلام بحوالي 200 سنة ومنها وصلتنا اخبارهم عن طريق شعرهم واثارهم .
الى الحلقة القادم
اما سيكولوجية الأنسان الجاهلي فهي انعكاس لظروف بيئته التي نشأ فيها . فالجغرافيا والمناخ لهما تأثير كبير على حياة الفرد , وهما يحددان سلوكه وتطوره (19)
كان العربي القديم علوقا بالأرض كافح من اجل البقاء . وكان احساسه بقسوةالمناخ من سخونة الصحراء وانعدام المطر وشحة الغذاء يتجلى في معاناته وتضحياته . فالجاهلي فارس جبار ومعاركه ضد ظلم الطبيعة يصعب تصورها . وفي هذا السياق يقول الشاعر الجاهلي تميم ابن مقبل
ما اطيب العيش لو ان الفتى حجر --- تنبوا الحوادث عنه وهو ملموم (20)
وقد فاضت نرجسية الجاهلي على ما حوله وحاول ان يستعلي على الظروف القاهرة بالفروسية كما عبر عنها الشاعر الجاهلي عنتر بن شداد
هلا سألت الخيل يا ابنة مالك --- ان كنت جاهلة بما لم تعلمي
يخبرك من شهد الوقيعة انني --- اغشى الوغى واعفوعن المغنم
واذا راجعنا سيرة عمرو بن كلثوم يتبين ان سلوك الجاهلي في حياته اليومية يشبه سلوك الأطفال . فهو يهتم بالحجم والكم دون المحتوى وهو يوجز ولا يطيل ولعل صفة البطولة لديه تفسير لواقعه المرير .
ان الجاهلي تبهره القوة ويأخذ بها كما يتوضح في شعر عمرو بن كلثوم قوله
ابا هند فلا تعجل علينا --- وانظرنا نخبرك اليقينا
بأننا نورد الرايات بيضا --- ونصدرها حمرا قد روينا
هذه الأبيات الشعرية تذكرنا بصراخ الأطفال عندما يتوعدون ويتشنجون ويغضبون , فالطفل يأخذ بالمبالغات ويعظم الحوادث وذالك بفضل خياله الخصب ورغبته في تصعيد الذات بغية اشباع متطلباته المكبوتة , ان نفسية الجاهلي نفسية مضطربة تجمع فيها تناقضات البيئة ..... انها نفسية الطفل في اولى تجلياتها . ومن خلال هذا يمكن القول ان شخصية الجاهلي هي اقرب للخير منه الى الشر , انها الأنا التي تؤكد نرجسيتها بوجه الزمن انتقاما من المحيط الضاغط (21)
كانت قبائل البدو ينقسمون جغرافيا الى شمالية وهم العدنانيون . وجنوبية وهم القحطانيون .
اما بخصوص الحياة الأجتماعية عندهم . فكانوا ينقسمون الى حضر وبدو . والحضري يختلف عن البدوي فالأول استقر في بقعة توفرت فيها اسباب المكوث فأستغل الأرض واشتغل في الزراعة ومارس الحرف وانشأ المدن . والأخرظل مرتحلا ابدا ساعيا وراء الماء والكلاء محتقرا طراز حياة الحضر واعتمد في معيشته على ما تنتجه ماشيته , فأغتزل ثيابه من صوفها واكل لحمها وشرب لبنها وتدفى بروثها وجعل من جلدها بعض مسكنه .
وقد تمسك الجاهلي بالقبيلة التي كانت تعني بالنسبة اليه القلب النابض للحياة الأجتماعية . حيث كان يستمد كيانه من وجودها فهي كانت لديه بمنزلة الوطن .
لم تكن العلاقات بين قبائل البدو دوما على ما يرام . فكانوا يتناحرون ويتحاربون تارة ويتحالفون ويتصاهرون تارة اخرى . ولعل العصبيات القبلية والتفاخر بالأنساب والأعتزاز بالألقاب جعلت علاقاتهم مع بعضهم في اغلب الأحيان متوترة .
كانت للأحلاف اهمية كبيرة بين القبائل . فكانت العشيرة الصغيرة تنضم الى الكبيرة بغية كسب القوة منخرطة في كل ما لها وما عليها من حقوق وواجبات , تشاركها في الحروب وتحاكيها في التقاليد وحتى تعبد الهتها , والتحالف يعني يمين العهد فكانوا يغمسون ايديهم في الدم عندما يقسمون الولاء , وكان حلف المطيبين الذي انعقد في مكة بين قبائل بني مناف وبني تميم وبني اسد ضد قبيلة عبد الدار اشهر الأحلاف .
اما التشكيلة الأدارية للقبيلة فكانت تتكون من مجلس قيادة . يضم شيوخ العشائر يرأسه من يختارونه من المسنين وظيفته ادارة شؤونهم وقيادة القبيلة في الحروب وتقسيم الغنائم وعقد الصلح ويحق للقبيلة ان تخلعه او تقتله , وكانوا يطلقون عليه لقب السيد . لكن بعد ظهور الأسلام اقتصر هذه اللقب على النبي الكريم وعلى ذريته من بعده (22)
كانت القبيلة ترعى افرادها وتصونهم من الأذى تذود عنهم وتنصرهم ظالمين او مظلومين .
كانت الدماء تسيل لأتفه الأسباب . كما جرت في حرب البسوس بين قبيلتين نصرانيتين تربطهما صلة قرابة دامت ثلاثين سنة . حدثت بسبب سهم اصاب ضرع ناقة عن طريق الخطأ .
كان المجتمع الجاهلي يتكون من ثلاثة طبقات , الأحرار وهم ابناء القبيلة الواحدة التي تربطهم صلة الدم والنسب والرحم . والثانية وهم الموالون الذين اعتنقتهم القبيلة بعدما كانوا ارقاء والثالثة وهم العبيد الذين اسروا في الحروب (23) اما بشأن الأخلاق العربية فأقول ان من ابرز صفات العربي في الصحراء هي صفة الكرم , فهي في نظره ضمن فضائل البادية وكان حاتم الطائي قد اشتهر بالكرم واصبح مضرب الأمثال حتى انه كان يخرج طعامه فأن وجد من يأكل معه اكل وان لم يجد طرحه جانبا .
كما كان حب الضيافة عند العرب من الخصال الحميدة يعتزون بها فكانوا يوقدون النار ليلا لمساعدة الضالين في الصحراء . بهدف الوصول اليهم فيطعمونهم حتى وان كانوا اعدائهم وفي هذا
السياق يقول الشاعر عوف ابن الأحوص
ومستنبح يخشى العواء ودونه --- من الليل باب ظلمة وستورها
رفعت له ناري فلما اهتدى بها --- زجرت كلابي ان يهر عقورها
(24)
- كان عرب الجاهلية يعتدون بالوفاء اعتدادا عظيما فالوعد عندهم خصلة صادقة مقدسة ز
- ومن شيمهم العفو عند المقدرة . كما كانت صفة الشجاعة من الصفات العالية يتغنون بها حيث كانت تثير في نفوسهم روح المبالغة المفرطة كما جاء في الشعر الجاهلي لعمرو بن كلثوم قوله
- ملأنا البحر حتى ضاق عنا --- وماء البحر نملئه سفينا
- واذا بلغ الفطام لنا صبى --- تخر له الجبابرة ساجدينا (25)
اما بخصوص المرأة قبل الأسلام فقد كانت تحظى بمكانة اجتماعية مرموقة . فكان لها حرية اختيار الزوج . وهذا الأمتياز كان مقصورا على طبقة الأحرار مشروط بحضور الوالد . و اذا اساء الزوج معاملتها تركته . لكن اذا اسر في الحروب واستشفع بها اعادت اليه حريته (26)
وقد رافقت النساء ازواجهن في غزواتهم . فكن يشدن من عزائمهم بأناشيدهن ويندبن الفارس القتيل , كما كانت تحث الرجال على طلب الثأر . واكثر ما كان يبغضها قبول عشيرتها بالدية . وكان الغزو المتتالي يؤدي احيانا الى تقليل عدد الذكور . مما كان يمهد الطريق الى تعدد الزوجات (27)
والتأكيد على مكانة المرأة في الجاهلية هو افتتاح الشعراء قصائدهم بوصف محاسنهن في لبسها وحليها وطيوبها . مثلما داعبوا عواطفها المتجلية بجمال النفس وحلو المحامد
كانت المرأة قد ملكت الأموال ومارست التجارة لكنها كانت تأتي بالمرتبة الثانية بعد الرجل كونها كانت غير قادرة على خوض المعارك .
اما في مجال الخمرة فقد تغنى بها الجاهليون واعتبروها من مظاهر الترف . وقد جاء في شعر عمرو بن كلثوم قوله
الا هبي بصحبك فأصبحينا --- ولا تبقي خمور الأندرينا
مشعشعة كأن الحصى فيها --- اذا ما الماء خالطها سخينا
وكان الأدمان عليه يسبب لصاحبه الخلع من عشيرته .
بقيت مسألة الوئد : في الواقع كانت هذه الظاهرة نادرة الحدوث في زمن السلم . لكن البعض كان يمارسها زمن الحرب اجتنابا للوقوع في ايدي الأعداء . حيث ان الجاهلي كان يعتبر السبي طعنة في شرفه . وعندما جاء الأسلام حرمها طبقا لسورة التكوير في القرأن الكريم – واذا الموؤدة سألت بأي ذنب قتلت ؟
اما عن حالة الغزو فقد دفعت ظروف الصحراء القاسية بالبدوي الى الغزو . وهو نوع من اللصوصية اذ كان يهاجم افراد قبيلة قبيلة اخرى يسطون على انعامها ويسبون نسائها ويستعبدون اولادها . لكن الثأر عند الجاهلي كان هو القانون الأكبر وفي مقام التقديس . وكان الرجل يحرم على نفسه زوجته حتى يثأر . فأن قتل لبت القبيلة كلها نداء الدم وتبادلت بينهما الحروب . حتى اذا استفحلت دفعت الدية وتوقفت . والفارس الذي يقتل في المعارك يترك طريحا في ساحة الوغى حتى تفترسه الوحوش وهنا يقول الشاعر الشنفري
لا تقبروني ان قبري محرم --- عليكم ولكن ابشروا ام عامر (28)
اما اخبار الشعر والشعراء فنقول انه كانت موهبة الشعر عند العرب فطرية . وكان للشاعر الجاهلي مكانة محترمة فقد اعتبروه حامي الأعراض وحافظ الأثار وناقل الأخبار وزعموا ان مع كل شاعر شيطان . ويعتقد ان الشعر نشأ بداية في العصور البائدة من تعاويذ وابتهالات كانت ترفع للألهة بغية تطمين الميت في قبره كما وتساعدهم للقضاء على خصومهم ونصرة ابطالهم . وكان عرب الجاهلية يستعملون الشعر لأغراض اجتماعية متعددة .
اما موضوع المعلقات فهي اجود ما قاله عرب الجاهلية في الشعر . فقد اختاروا افضلها وكتبوها بماء الذهب وعلقوها على استار الكعبة , هذه بعضا منها
يقول امرؤ القيس
فقا نبك من ذكرى حبيب ومنزل --- بسقط الهوى بين الدخول فحومل
ويقول عنتر ابن شداد
هل غادر الشعراء من متردم --- ام هل عرفت الدار بعد توهم
ويقول طرفه ابن العبد
لخولة اطلال ببرقة ثهمد --- تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
ولا بأس ان نمر على الأطلال ونقف على ديار الحبيب . لنتأمل واقع حياة الأنسان المتميزة بالترحال الدائم , هذا الترحال كان في الغالب يترك ورائه اثارا تذكر الجاهلي حضوره في هذا المكان في وقت مضى .
كانت الأطلال تتكون عادة من حفرة الخيمة وبعض الأوتاد والحجارة الموقدة وقطع الحبال وروابط الأبل , ويحدث ان يمر جاهلي بهذه الأرض صدفة وقد كانت له فيها سويعات حميمة مع احدى نساء القبيلة ... يتذكرها... فيهتز احساسه ويستفيق خياله ثم تطغى عليه عاصفة الحنين عندها تفيض عاطفته ويبدأ يقول الشعر على البديهة
فهذا الشاعر خذام احد هؤلاء العشاق يقول
عوجا على الطلل المحيل فأننا --- نبكي الديار كما بكى ابن خذام
لقد قادت ساعات الوقوف على الأطلال الى التأمل والتحليل .
فمدلولها الأجتماعي يعكس ثقل التقاليد وصرامتها في البادية . اما مدلولها الفني غالبا ما يثير مشاعررجل الصحراء الشعرية . بينما مدلولها النفسي يذكر العابر بجور الطبيعة فيجعله يفكر بواقعه الأليم وليس امامه خيار اخر سوى استنهاض الذات في وجه الشجن . (29)
وفي الختام فأن ؛ الهوية الثقافية العربية ؛ كلغة وثقافة كانت موجودة قبل وجود الدعوة الأسلامية , لكنها كانت محصورة بالقبائل العربية وبمواقع جغرافية محددة .. بينما العروبة – كهوية انتماء حضاري ثقافي – بدأت مع ظهور الأسلام ومع ارتباط اللغة العربية بالقرأن الكريم وبنشر الدعوة بواسطة رواد عرب ..
هكذا اصبحت ؛ العروبة الحضارية ؛ هي الثقافة العربية ذات المضمون الحضاري الذي اخرج الثقافة العربية من الدائرتين : العرقية والجغرافية الى الأفق الحضاري الواسع الذي اشترك في صيانته ونشره مسيحيون عرب ومسلمون من غير العرب , وبالتالي خرجت الهوية الثقافية العربية من دائرة العنصر القبلي او الأثني , ومن محدودية البقعة الجغرافية ( شبه الجزيرة العربية ) الى دائرة تتسع في تعريفها ل " العربي " لتشمل كل من يندمج في الثقافة العربية بغض النظر عن اصوله العرقية . ودخل في هذا التعريف معظم من هم عرب الأن ولم يأتوا من اصول عربية من حيث الدم او العرق ( 30 )
. ...
الهجرات العربية
الهجرات العربية بين القديم والحديث - 2
مقتبس من كتاب دائرة المعارف الشيعية لحسن أمين
بقلم د. رضا العطار
كان العرب القادمون من الجزيرة العربية الى اقطار الهند الصينية، يقيمون في الجزر الاندونيسية فترات طويلة، يتزوجون من نسائها ويتكاثرون بسرعة، خاصة بعد ما كانوا يلقون من اهلها من استقبال وقبول، بفضل حسن تعاملهم وسجاياهم الحميدة، وقد حظوا بفرص اجتماعية وسياسية مرموقة اوصلتهم الى مراكز حكومية عالية، كانت نتيجتها ان اصبحوا بعد اجيال رجال دولة. فشكلوا سلطنات اسلامية. وقد بلغت هذه الكيانات اوج ازدهارها خلال القرن الثامن الميلادي، وبالرغم من انها تعرضت للاحتلال البرتغالي والهولندي والبريطاني، لكن انتهى الامر اخر المطاف الى قيام جمهورية ماليزيا عام 1967 .
جاء في محاضرة للاستاذ الجامعي – تمين – التي القاها في معهد التاريخ في سومطرة مايل: ( لقد انتشر السادة من نسل اسرة نبي الاسلام محمد في كل من كامبوديا والصين وسيام، كان بينهم رجل اسمه سيد حسين الذي حظي ابنه ابراهيم بالأقتران من اميرة اسمها – باناولاق – من اسرة جاميا الاندونيسية، فولدت له ولدين – علي واسحاق، كانا من ابرز العناصر الناشطة في نشر عقيدتهم في تلك الاصقاع )
اما في جزر الفلبيين فقد استوطن فيها المهاجرون العرب بكثرة الى درجة تمكنوا ان يقيموا فيها دولة، التي استمرت حتى عام 1521 م حينما هاجمهم الاسبان وانتزعوا من ملكها عبد القاهر السلطة في البلاد، لكنهم طردوا منها عام 1898 ، بعدما تحولت الفيليبين الى السيطرة الامريكية.
وجاء في كتاب – دراسات عن المسلمين العرب وتاريخهم – لمؤلفه محئ الشريف، المطبوع في مانيلا عام 1905 ما يلي :( لقد قام رجل عربي علوي اسمه حسن بنشر الاسلام في جزيرة يوايان، وعندما احيط ملك الفيليبين علما بدعوته حتى دعاه اليه طالبا منه ان يشرح لجلالته جوهر عقيدته، وعندما انتهى المهاجر من كلامه، اعلن الملك اسلامه على يديه. وما ان شاع الخبر بين سكان جزر ميندانا، مافندانا، سولو، سبيو، كوت، بارو، كمبايان، تمبارا، وليبونغانا، حتى توافدوا زرافات ووحدانا على الدعاة يعتنقون الدين الجديد لملكهم، برضا وسرور.
كما شهدت بلاد تايلند بين القرن الثاني والخامس عشر التدفق الهادر للمهاجرين العرب، وقد لقوا من ملكها دفئ الاستقبال الى درجة افضى على بعضهم مناصب حكومية عالية تتعلق بشؤون التجارة والجيش، وعندما كان المتوطنون العرب يقيمون احتفالاتهم الوطنية، كان الملك ينتدب اليهم رسولا يمثله.
يمكن القول ان عام 1150 للهجرة كان عام الهجرة العربية الاخيرة التي خرجت من ميناء حضرموت متجهة الى اندونيسيا، كان من بينهم اربعة اشخاص هم حسين القدري وعثمان حسن ومحمد حامد ومحمد القدسي، كان هدفهم من هجرتهم هو السعي وراء العيش الكريم ليس الاّ. بيد ان الحظ حالفهم بعد ان اثبتوا انهم منحدرون من اسرة نبي الاسلام محمد، فأقترنوا بالأميرات بنات السلاطين في اندونيسيا، حيث ان الحكام اعتبروا المصاهرة مع احفاد الرسول رمزا للفخر والشرف.
لقد تعرضت الجزر الاندونيسية الى الاستعمار الهولندي عام 1596 ، لكن المستعمرين انصب جلّ اهتمامهم على المال والتجارة وتركوا الاهالي منشغلين بشؤونهم الدينية الى درجة كان الهولنديون يساهمون في تشييد المساجد لهم بغية ابعادهم عن عالم السياسة، ونسوا انهم يهيؤون للسكان المحليين الفرصة الذهبية لتحقيق الوحدة الدينية، هذه الوحدة كانت المنطلق الاكبر في النضال ضد المستعمر بهدف طرده من البلاد. وقبيل الحرب العالمية الثانية احتل اليابانيون اندونيسيا، لكنهم عندما خسروا الحرب مع الولايات المتحدة الامريكية عام 1945، تركوا ما كان بحوزتهم من سلاح للأندونيسين. فكان ذلك خير عون للثوار بان يظفروا باستقلالهم عام 1947 .
اني اشعر بالزهو والأبتهاج كلما تذكرت ذلك التاريخ. انه كان من مفارقات الزمن بأن الامام جعفر الصادق الذي كان يعاني من ظلم الخلفاء وجورهم في بغداد طيلة عمره، لم يكن يحلم، ان ابناء احفاده سيصبحون يوما سلاطين دول في اقطار الهند الصينية في المحيط الهادي بعد ما اقترنوا بأميراتها.
الى دراسة جديدة في العدد القادم
الهجرات العربية
الهجرات العربية بين القديم والحديث – 3
مقتبس من كتاب دائرة المعارف الشيعية لحسن امين
بقلم د. رضا العطار
لا تزال المقبرة الاسلامية في اندونيسيا الى الوقت الحاضر تضم قبور اولئك الرواد الاوائل من نسل الامام جعفر الصادق، والتي يعتبرها السكان المحليون مراقد مقدسة. ومما يسترعي الأنتباه وجود البسملة وآيات من القرآن الكريم وعبارة ( الله محمد علي ) منحوتة على شاهد بعض القبور، كما تدل تواريخ وفاتهم انهم ماتوا خلال القرن التاسع الهجري، كما ان هناك قبر حمل شاهده اسم عبد الله، كان قد فرّ من وطنه العراق قاطعا الاف الاميال البحرية ليصل الى اندونيسيا هربا من المذابح التي اجتاحت بغداد اثناء غزو هولاكو لها عام 1258 ميلادية،
ومن الطريف ان نجد هذين البيتين لأبي نؤاس منحوتة على شاهد قبراندونيسي :
يارب ان عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك اعظم
ان كان لا يرجوك إلاّ محسن فمن يلوذ ويستجير المجرم ؟
اما عن اخبار الصحافة في بلدان المشرق، فقد صدرت العديد من الصحف العربية الاسبوعية – كالسلام – في سنغافورة و – حضرموت – في اندونيسيا وقد عفى عليهما الزمن بتقادمه ولم يبق منها من اُثر،
اما عن اخبار الادب والشعر، يمكن القول ان الشعر العربي في المهجر بقى على حاله كما في بلاد العرب محتفظا بخصائصه التي لا تخرج عن نطاق الغزل والمديح والهجاء والرثاء والفخر، لكنهم اضافوااليه طابعا جديدا من الشعر يعكس معاناة الغربة وما يصاحبها من الانفعالات العاطفية من الشوق والحنين ، فما هي سوى افرازات احدثتها ذكريات الوطن والحس بعز الحياة وحلاوة العيش فيه. انها كانت تظهر بشكل عبرات وزفرات وتأوهات لا وحتى النحيب احيانا.
فالبعض كان قادرا على تحملها، مشددا عزمه وحزمه على مطارحتها و مطاوعتها محاولا الصمود امام التحديات وتراكماتها النفسية والعاطفية التي ليس لها اول ولا آخر. وآخرون لم يكونوا قادرين على تحمل حياة الغربة معتبرين اياها سجنا روحيا، رغم ما اتاح لهم البلد المضيف من منافع مادية ومعنوية كافية، مضخمين معاناتهم، بأظهار الشكوى والتذمر، وقد يقوى عندهم هذا الشعور ويشتد لديهم الاحساس بالضياع وفقدان الهوية وينفذ عندهم طاقة التحمل حتى انهم يفكرون بالرجوع الى اوطانهم الأصلية حيث ارض المنبت وعش الطفولة وذكريات المدرسة.
ناء من الاوطان يفصلني عمن احب، البرُ والبحرُ
في وحشة لا شئ يؤنسه الا انا والعود والشعرُ
حولي اعاجم يرطنون فما للضاد عند لسانه قدرُ
اناس مالي بقربهم أنسُ ومدينة، لكنها قفرُ
والشاعر الشيخ ابو بكر آل شهاب ينظم قصيدة يعبر فيها عن حنينه الى مسقط رأسه حضرموت وتعطش شوقه لمشاعر مجتمعه الحميمة، يخاطب فيها عياله:
على سلمى وان نأت الخيام من المضنى تحية وسلام
تناشدني اترجع عن قريب فقلت نعم وللدهر احتكام
ترى هل تجمع الايام شملي بها او هل لفرقتنا التئام
اليها قبلتي ولها صلاتي وحجي والتنسك والصيام
فشاعرالمهجر لا يتغنّى بالديار والاطلال انما الى منازل العرب ومجدهم التليد، قوله:
مدينة سنغافورة حين تبدو معالمها ترى السوح الرحيبا
ولم تسمع اذا ما طفت الا حماما سمجعا ام عندليبا
من ساكنيها العرب الكرام من المجد اكتست بردا قشيبا
تعبر هذه القصيدة عما كان للعرب في تلك الديار من شأن عظيم. والظاهر ان العرب كان لهم من الثقل الاجتماعي وقوة التأثير في المجتمع السنغافوري، كيما يتحدث الشاعر عن السوح الرحيبة والسفوح الخضراء حيث يحييها المطر، لتظل ابدا خصيبة.
لم يكن شعراء المشرق جميعهم على منوال الشيخ ابو بكر، انما كان هناك ايضا من يهوى ويعشق ويهيم في الجمال الساحر ويتغزل. فبيئة المهاجر وحالته النفسية والاقتصادية والاجتماعية هي التي تعطي حجم السعادة التي يتمتع بها المهاجر في الوطن الجديد. كهذا الذي يتغنى بحبيبته (تقوى) قوله:
ست الحسان ! لماذا سماك اهلك تقوى؟
ففيك طال انتظاري وكادت الدار تهوى
نفسي فداك تعالي فالوصل كله بر وتقوى
ان الابداع الفني والثقافي ظهر في ادب المهجر المشرقي قبل الف عام قد خضع مع بالغ الاسف الى الاهمال علما ان الظروف الملائمة هناك كانت مشجعة، ولذا ظهر في محيطهم بعض النوابغ الذين ابلوا بلاء حسنا في مجالات العمل الادب الخلاق، فغدوا اعلاما يشار اليهم بالبنان.
الى دراسة جديدة في العدد القادم
الهجرات العربية
الهجرات العربية بين القديم والحديث - 4
مقتبس من كتاب دائرة المعارف الشيعية لحسن أمين
بقلم د. رضا العطار
كانت الهجرات العربية المتعاقبة الى ممالك الهند الصينية هجرات جارفة حملت الاعداد الغفيرة من ابناء العروبة الى اوطان بعيدة اتسمت بيئتها بالامن والامان والتمتع بشهرة المقام، اذ فسحت تلك الممالك المجال امام القادمين كي ينعموا بالاستقرار وراحة البال، فأظهرت لهم رحابة الصدر المتصفة بالتسامح العقائدي. فكونوا شعبا كثير العدد.
لكن المهاجرين الذين حالفهم الحظ ان يفلتوا من ظلم الطغاة ويتخلصوا من الفاقة الاقتصادية في بلدهم الام، سرعان ما اكتشفوا انهم يذوبون تدريجيا في مجتمعات غريبة كبيرة مع تعاقب الزمن، حتى ينتهوا اخيرا في غيبىة ابدية. فلم يبقى ما يربط الاحفاد بجذور ابائهم واجدادهم في الوطن الأم، مثلما لم يبقى لهم من الماضي الا شبح الذكريات
كما حدث لأسرة ( آل حسن) في اندونيسيا مثلا، حيث انطوت انطواء كاملا حتى اصبحت سلالتها لا تعرف الا بأسماء محلية. فغدوا يعرفون بعد اجيال بآل ساسترو.
والبلد الوحيد الذي كسب شعبه من وراء هجرة ابناءه الى مناطق الشرق الاقصى هو حضرموت، حيث عاد الابناء البررة الى وطنهم بعد اغتراب طال امده. انهم لم ينسوا جذور منبتهم ولم يتنكروا فضل تربة وطنهم، بل انما كانوا معه دوما على اتصال روحي وثيق. يمدونه بالمجلات الثقافية بأنتظام و التي كانت تصدر اسبوعيا في بلدان المهجر. فكانوا على بساطتهم يعرفون جيدا – ان للوطن حق عليهم – وان عليهم ايفاء هذا الحق المقدس. هكذا جلبوا معهم من بلد المهجر الاموال التي وفروها والخبرة الفنية التي اكتسبوها والثقافة التي تعلموها الى بلد الأم فساهموا بشوق ونشاط في بناء وطنهم حضرموت، البلد المتأخر شبه الصحراوي، بجهودهم الحثيثة حتى ظهرت فيها بوادر الحياة العصرية.
لكن بعد اكثر من الف سنة من تاريخ الهجرات المشرقية، بدأت هجرة العرب بأتجاه معاكس، اي نحو الغرب وتحديدا الى الأمريكيتين، شمالا وجنوبا، لكن هذه المرة انطلقت الهجرات تحديدا من بلاد الشام بما فيها سوريا ولبنان.
ومما يجلب الانتباه ان دوافع الهجرة هنا اختلفت كلية عن سابقتها، علما ان البواعث تنحصر غالبا في المجالات الاقتصادية او الدينية او الاجتماعية او السياسية.
فالجموع الغفيرة من العرب التي هاجرت بأتجاه الشرق خلال القرنين السابع والثامن الميلادي، كانت الدوافع اقتصادي بالنسبة الى التجار، وعقائدية، بالنسبة للمسلمين الشيعة من العرب،
فكان المعلوم أن حكام بني اميّة وبني العباس كانوا يضطهدون العلويين ويفتكون بأئمتهم الذين لم يعترفوا يوما بشرعية خلافتهم. ولذلك لم يكن امامهم خيار آخر سوى ترك الاوطان والملاذ في مناطق نائية آمنة، حيث وجدوا فيها البيئة الملائمة لنشر عقيدتهم الاسلامية اينما حلّوا وحينما ارتحلوا، خاصة بعد ان حظوا بالأستقبال والقبول من قبل سلاطين تلك البلدان التي توطنوا فيها، وقصة ملك الفلبيين في جزيرة يوايان ما زالت طرية في الذاكرة، كيف انه اسلم على يد عربي علوي، وعلى اثر ذلك اعلن جميع السكان في الجزر التسعة التابعة له، اسلامهم.
اما الدوافع الاقتصادية، فلم يكن لها تاثير كبير عموما خاصة وان الشعوب العربية كانت تعاني الفقر قرونا عديدة وقد اعتدت عليه مع الزمن تحت وطأة حكامهم المستبدين وغياب نظام العدل الاجتماعي، فكانت هجرة العربي في البادية، انتقالا محليا، اتسم به البدو الذين كانوا يتركون مكان سكناهم في حالة الجفاف، سعيا وراء الماء والكلأ.
لكن الذي حدث في اعقاب الحرب العالمية الاولى وتحديدا في الثلاثينيات والاربعينيات من القرن العشرين ان سائت الامور المعاشية في بلاد الشام بشكل غير مسبوق . مما دفع شعوبها وخاصة شعب لبنان الى الهجرة للخارج، فكانت امريكا هي الهدف، بعدما توقعوا ان يتعرضوا الى خطر المجاعة، فركب الهوس رؤوسهم في ترك بلادهم حتى فرغت من نصف ساكنيها .
ما اسخف البلد الذي يباهي ابناءه بأنهم يبنون في الغرب ناطحات السحاب بينما تكون قراهم في الوطن الأم خاوية خالية ينعب فيها الغراب، وانهم يولدون في وطنهم في الاكواخ، ويموتون في الغربة في الأبراج، وما اتعس الشعب الذي يتضائل في بلاده ويتعاظم في بلاد الغريب. تود اليوم الحكومات العربية اليوم التي ينتمي اليها المهاجرون، لو تسترجعهم الى ارض الوطن، فتوسد ذلك بالوعود المشوقة، حيث يلتقي حسن النية بقصر النظر، فعودة المغتربين هي غربة ثانية بالنسبة اليهم. لقد توثقت الصلات التي تربطهم بالمهجر ووهنت صلاتهم بالوطن الأم في عشرات السنين التي مضت. فإذا عادوا اليه لم يجدوا فيه الاواصر والارحام التي انسلخوا منها يوم هجرتهم – وكانت مناط حنينهم في غربتهم --- فقد قيل في المغترب العائد:
رب كهل عاد منهوك القوى كان يوم البين طلاع الثنايا
لم يجد من عهده في قومه باقيا غير المخازي والشكايا
اللذاذات التي يشتاقها اصبحت في ارذل العمر رزاياها
يا لها من غربة ثانية في صميم الدار ما بين الولايا
الى دراسة جديدة في العدد القادم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق