لقد انتشر في المجتمع العباسي مظاهر التألق في الأزياء، والتأنق في المراسيم، والتهادي بالورد، فظهر لدى العوائل البغدادية شغف في تزيين بيوتهم بالوان من الزهر والرياحين، فكانت دورهم تطفح دوما بشذى عبيرها الفوّاح، تشكل رمزا صادقا لمعاني الوّد والوداد، و دلالة واضحة على الذوق الفنّي للشخص العراقي، كما كان باعثا لألهام الشعراء بمشاعر الخصب والخيال، وعلى اثر ذلك كثرت حقول الورد في ضواحي بغداد وفي كل مكان وفي هذا السياق يقول الشاعر ابن الجهم :
لم يضحك الوردُ الاّ حين اعجبه * * حسن الرياض وصوت الطائر الغرد
بدا فأبدت لنا الدنيا محاسنها * * * وراحت الراح في اثوابها الجدد
قامت بجنته ريحُ معطّرةُ * * * تشفي القلوبَ من الهم والكمد
بدا فأبدت لنا الدنيا محاسنها * * * وراحت الراح في اثوابها الجدد
قامت بجنته ريحُ معطّرةُ * * * تشفي القلوبَ من الهم والكمد
كما يشدو ابو نؤاس، سلطان شعر العزل، هذه الألحان :
لا تخشعنّ لطارق الحدثان * * وادفع همومك بالشراب القاني
أوما ترى أيدي السحائب رقّشت * * حلل الثرى ببدائع الريحان
من سوسن غض القطاف , خُزّم * * وبنفسج , وشقائق النعمان
وجنّي ورد يستبيك بحسنه * * مثل الشموس طلعن من اغصان
حمراء وبيضاء وصفراء * * يجتبين بروعة الوديان
كعنقود ياقوت نظمن ولؤلؤ * * اوساطهن فرائد العقيان
ومن الزبرجد حولهن ممثلا * * سمطا يلوح بجانب البستان
فإذا الهموم , تجاذبتك , فسلّها * * بالراح , والريحان والندمان
أوما ترى أيدي السحائب رقّشت * * حلل الثرى ببدائع الريحان
من سوسن غض القطاف , خُزّم * * وبنفسج , وشقائق النعمان
وجنّي ورد يستبيك بحسنه * * مثل الشموس طلعن من اغصان
حمراء وبيضاء وصفراء * * يجتبين بروعة الوديان
كعنقود ياقوت نظمن ولؤلؤ * * اوساطهن فرائد العقيان
ومن الزبرجد حولهن ممثلا * * سمطا يلوح بجانب البستان
فإذا الهموم , تجاذبتك , فسلّها * * بالراح , والريحان والندمان
يسعدني في هذا السياق ان يتناغم الأتجاه الفنّي لهذه القصيدة المحببة مع ما يطرحه الشاعر الياباني أكاكورا من مشاعر الشغف الروحي تجاه ما تنبته الارض من نبات جميل، مزدانة بعمق الاحاسيس الأنسانية, فجميعها نبضاتُ عطف ورحمة، منحدرة من حنان الطبيعة الأم، تتدفق من معين واحد وتصب في بحر العواطف رقيقة رقراقة، كرقة مياسم الزهور. فهو يقول بعد الترجمة و التصرف : ( لقد تعلم البشر مشاعر الحب عبر الطبيعة , بفضل فيض جمالها, و الزهورفي مقدمتها, وما لها من اشكال وانواع والوان ناهيك عن شذى عطرها الفواح، فعشقها الأنسان وزاد من شغفه بها . ويمكنني القول انه في اليوم الذي قدّم الشاب الى فتاته باقة زهور, ارتقى درجة في سلّم التطور. ان الأنسان عندما يترتفع في ادراكه النبيل عن ماديات الحياة , يغدو اعلى شأنا واسمى مقاما وارفع منزلة . فالأزهار بالنسبة اليه كالصديق الحميم .
فنحن عندما نأكل او نشرب او نغنّي او نرقص, تكون الأزهار من حولنا. وحينما نعشق, يأتي الحب عن طريقها. وعندما نتزوج يكون الورد زينة مجلس عرسنا، وعندما نجلس الى احبتنا تكون باقة الورد بيننا، ويوم ننال حظوة في حياتنا, نستقبل تهاني احبتنا ضمن باقة ورد. انها تلازمنا في افراحنا واتراحنا. وعندما يعترينا المرض, تكون الزهور في جانب سريرنا. وعندما نموت فهي فوق نعوشنا. وعندما يدسوننا في التراب, تتناثر الزهور فوق قبورنا, نتزكّى بشذى عطرها. وعندما يأتي الحبيب لزيارتنا يجلب لنا بعضا منها. أ مجال للشك في اننا يمكن ان نحيا بدونها ؟ . ومهما يكن ذلك مؤلما لنا فأن من العبث ان نتنكر فضلها. وبالرغم من اننا محاطون بالأزهار الا اننا لم نحاول يوما ان نستفيد من مغزاها الروحي . الحقيقة الراسخة في كياننا هو اننا نشكو دوما من الجشع. ما من شئ مقّدس عندنا غير شهواتنا. الله عظيم, لكن رسوله في نظرنا هو الذهب. فمن اجل الذهب ندمّر الطبيعة وما فيها من كائنات, مثلما ندمّر الدنيا وما عليها من خيرات.
يا للفظاعة ان نرتكب بأسم العلوم الحديثة حماقات في حق الأنسان. نشوّه جمال الطبيعة التي وهبتنا الحب والحياة. حدثيني ايتها الأزهار الرقيقة . يادموع النجوم . الناهضة في حديقة داري. تترنح هاماتك الطرية تحت قبلات الندى وشمس الصباح. لولاك لما عرف الأنسان معنى الحب ومشاعره, فعن طريقك تعلّمنا كيف نتصالح ونتوافق ونتأخى ونتحابب. ان رفيف وريقاتك الندية تنشد الأنغام الشجية مع اولى شعاعات نور النهار وتستقبل طلائع ورد الربيع رشفات نحل العسل وقت السحر. كل هذا من اجلك انت ايها الأنسان. اليك يا زهيرات البرية سلامي. يا رمز الحسن والحرية. انكِ تبهجين قلوب العاشقين وتزيلين هموم المنكوبين وتفرجين غم المكتأبين .
يالك من روعة وجلال. وفي هذا السياق الفني اقول معلقا : لقد كان الموسيقار العالمي الشهير بيتهوفن المولود عام 1770 يطيل الجلوس تحت ظلال غابات فيينا، ساعات وساعات، صامتا صاغيا متأملا ! لسنوات لا حصر لها. وحينما كان النمساويون يسألونه عن سّر المكوث في ( صومعته ) طوال النهار يجيبهم : ( بغية تلقى الهاماتي النغمية، التي تنحدر من النباتات، من الزهور، من الرياحين. انني ارهف سمعي الى الهسهسات التي تحدثها حركة وريقاتها. ان رفيفها رهيف جدا. انها تطنطن في اذني. تحرك خلجات روحي و تطربها. فدنياها دنيا سرور وغبطة. اني اتلقّى الألحان منها.
ثم اثبّتها في دفتري بالشكل الذي يروق لي كنوتات موسيقية وشكرا. هكذا كان هذا العبقري العظيم قادرا على ان يدرك سر الانغام العذبة التي تحدثها الطبيعة عبر وريقات النبات. ثم انه كان يمتلك من القدرة الفنية الخارقة بدرجة تمكنه من ان يترجم هذه ( الالحان ) من نغم الشجر الى نغم يفهمه البشر، يطرب اليه، فيه من الطراوة والحلاوة ما يبهج قلبه ويشرح صدره. اذن صار معلوما ان الطبيعة العطوف هي التي تلهمنا هذه الالحان الموسيقية، لا بهدف ان نطرب اليها فحسب، انما لنتعلم منها كيف نكون اكثر رقة وعطفا وانسانية مع ابناء جلدتنا ! . لا لأن نكون مجرد سعداء متحررين من اغلال الهموم والاحزان، انما لنلتزم مقابل ذلك بها و ان نحافظ على جمال الطبيعة، ينبوع الخير ورمز الوجود. نحرص على سلامة البيئة، فلا نعبث بالنبات ولا نبيد الحيوان ولا ندمر الحياة بأشعال الحروب.
ان ارضنا الخضراء الطيبة يجب ان تكون مصانة من قبل ساكنيها، حتى تكون عشا آمنا جميلا لكل ابناء البشر، تجمعهم حياة الوئام والمحبة. وسيبقى العقل هو افضل الاشياء فسحة بين الناس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق